تثار سجالات، بين فترة وأخرى، حول قضايا فكرية إسلامية، بعضها يتعلق بقضايا معاصرة، والبعض الآخر يتعلق بمسائل تراثية؛ ما يعيد إلى الواجهة امتدادات تاريخية لسجالات قديمة بين مذاهب المسلمين، ويجدد طرح التساؤل حول مفهوم «الوسطية»، في ظل تشابكات سياسية واجتماعية وإعلامية، تتجه في الغالب إلى صيغة احتكارية للمفهوم.
فالوسطية مفهوم يعبر عن الاعتدال والموازنة والعدل في كل أمور الحياة، وهي من أهم خصائص الدين الإسلامي والأمة المحمدية، وأشار إليها القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، غير أن تنزيلها على تفاصيل مسائل العقيدة والفقه أصبح مثار نزاع بين المتمذهبين، بل بين أبناء المذهب الواحد أحياناً، وهو ما تابعناه أخيراً في السجال الدائر حول عقيدة الإمام محيي الدين النووي، بين مهاجم ومدافع.
فريق الهجوم يتهمون الإمام بأنه أشعري مبتدع، وفريق الدفاع يقول: لا ليس أشعرياً، أنتم تفترون عليه.
وكلا الفريقين ينتمي إلى مدرسة أهل الحديث السلفية!
ويعود أصل السجال إلى بعض التفسيرات لصفات الله عز وجل، في كتب الإمام النووي، التي يتنازعها طلاب العلم، ويختلفون، بناء عليها، حول تصنيف الإمام، ومن هنا جاء الهجوم والدفاع بين أغلب الخائضين في السجال، بينما يبدي أتباع المذهب الأشعري دهشتهم ممن يختلفون على تبديع مذهب تدرسه أغلب كليات العقيدة في جامعات العلوم الإسلامية ببلدان أهل السُّنة، وعلى رأسها الأزهر الشريف.
ما يعنيني هنا ليس تفاصيل الخلاف بقدر ما تعنيني القاعدة التي دار حولها الهجوم والدفاع، التي تعبر عن احتكارية لمفهوم الوسطية عند تيار أهل الحديث، يقابله خطاب مقابل لدى الأشاعرة ضد من يسمونهم بالوهابية.
إن الاختلافات التاريخية بين المدارس الإسلامية المتعددة حول مفهوم الوسطية لا تمس أصول الدين ومبادئ الإيمان، بل تدور فقط في فروع العقيدة والفقه ومسائل الاجتهاد، التي تحتاج إلى رأي واستنباط من المصادر الشرعية، فالجميع مثلاً متفقون على تنزيه الله عن كل نقص، ويختلفون في أسلوب هذا التنزيه في تفسير آيات الصفات الإلهية، وهذا الاختلاف لا ينافي الوسطية، بل يثريها ويزيدها تنوعاً وغنى، ما دام ضمن حدود المقاصد الشرعية والأصول المعروفة.
وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» (رواه البخاري).
ولا يعني ذلك أن كل رأي في كل مسألة يكون صحيحًا أو مقبولًا، بل يجب على المسلم أن يبحث عن الحق بالبراهين والأدلة، وأن يتبع أقوى الآراء في كل قضية، دون تعصب أو جمود، اتباعاً لقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون) (الأنبياء: 7).
لكن الخطأ الجسيم هو في تبديع من تبنى رأياً مرجوحاً أو حتى خطأ، والهجوم على مقام الأئمة على خلفية أخطاء لهم، فكل مذهب يزعم كثير من أتباعه أنه الحق المطلق، ويصرون على أن مسائل الخلاف تعبر عن قضايا استقامة وبدعة وليس بين راجح ومرجوح.
وتعود الاختلافات الكثيرة بين المدارس المتعددة حول مفهوم الوسطية إلى أسباب مختلفة، على رأسها اختلاف المنهج في فهم المصادر الشرعية، فكل مذهب يستنبط من القرآن والسُّنة وفق قواعد مختلفة عن المذهب الآخر، ويرجح بعض التفاسير على بعض، ويستخدم بعض المقاصد دون البعض الآخر، ويعتمد بعض الروايات دون الأخرى.
وإذا كانت الوسطية هي اتباع الحق بغض النظر عن المذهب، كما هو ظاهر في سياقها القرآني، فلا يجب أن يكون هناك اختلاف مفاصلة بين المدارس المتعددة حولها، ولا يعني ذلك اعتبار الوسطية نقطة في منتصف طرفين، بل هي موقف يجمع بين عناصر الحق والخير من كل طرف، ويرفض ما فيه من باطل.
فإذا فهمنا الوسطية بأنها نقطة في منتصف طرفين، فإننا نقع في خطأ منطقي؛ لأن هذا يعتمد على مقارنة بين شيئين قد لا يكونان متساويين في قيمتهما أو صحتهما، فلا وسط بين حق وباطل، أو بين حلال وحرام، أو بين عدل وظلم، ولا يجوز أن نأخذ من كل طرف نصف مقدار، بل يجب علينا اتباع الحق كاملاً، وتجنب الباطل كله، والإخلاص في الدين لله وحده.
غير أن هذا لا ينطبق على مسائل الخلاف خارج دائرة أصل الدين، وبالتالي فمن غير المقبول إسقاط أحكام تبديع عينية على أئمة أعلام، أناروا الدنيا بعلومهم ومعارفهم، والزعم بأن مذهب بعينه هو محتكر الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن في ذلك مجافاة للوسطية، باعتبارها، في شقها العملي، التزام اتباع لسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإحسان إلى خلق الله في التعاملات.
يكفي أن ندلل على مقصودنا من المقال باستعراض الإسهام الهائل للعلماء الأشاعرة في تراث المسلمين، ففي علم التفسير وعلوم القرآن منهم القرطبي، وابن العربي، والفخر الرازي، وابن عطية، والمحلي، والبيضاوي، والزركشي، والسيوطي، والزرقاني، والنسفي، ومن أهل الحديث الحاكم النيسابوري، والخطيب البغدادي، والبيهقي، وابن عساكر، والخطابي، وأبو نعيم الأصبهاني، والقاضي عياض، وابن الصلاح، وابن حجر العسقلاني، وابن بطال، والحافظ العراقي، والبدر العيني، وابن دقيق العيد، والزيلعي، والسخاوي.
ومن علماء الفقه الأشاعرة السرخسي، وابن عابدين، والشاطبي، وابن الحاجب، والباقلاني، والجويني، ومن علماء التاريخ والسير ابن الأثير، وأبو نعيم الأصبهاني، وابن خلدون، ومن علماء اللغة الجرجاني، وابن مالك، وابن عقيل، وابن هشام، والزبيدي.
إن الإصرار على اعتبار الاختلاف بين أثرية أهل السُّنة (امتداد الحنابلة)، ومتكلمة أهل السُّنة من الأشاعرة خلافاً يستدعي الولاء والبراء إنما هو محض احتكار غير مقبول لمفهوم الوسطية، لا برهان له من قرآن أو سُنة أو لسان العرب، وعلى طلاب العلم الشرعي ألا يخوضوا مع الخائضين في ذلك، وأن يلتزموا وضع الأمور في نصابها دون إفراط أو تفريط.
ويكفي هنا بيان ما قرره الشيخ محمد الحسن ولد الددو، في شرحه لكتاب «التوحيد» للشيخ محمد بن عبدالوهاب، بأنه إذا المقصود من أهل السُّنة هو من اعتقد بالكتاب والسُّنَّة على فهم سلف الأمة، فإن ذلك يشمل جميعَ المسلمينَ من أهلِ التوحيدِ، سواءً كانوا من الماتريديَّةِ أو الأشاعرةِ أو غيرِهم مِنْ أصحاب المذاهبِ المُعتبرة.
وعليه، فالنووي إمام، ولو كان أشعرياً، والمدافع عنه لا يحتاج إلى نفي أشعريته، وابن تيمية إمام، ولو كان حنبلياً، والمدافع عنه لا يحتاج إلى نفي سلفيته، بل يحتاج المدافعون إلى توعية المسلمين بضرورة التفرقة بين أصل الدين وما سواه، وكفانا انشغالاً بمعارك طواحين الهواء، التي لا تنم سوى عن خواء معرفي وخفة علمية وانحدار سلوكي.