أثبتت كتب السيرة التي تعتبرونها مرجعاً من مراجع الإسلام أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عطَّل حد السرقة عندما وجد أنه لا يصلح لزمانه؛ فلماذا تتهموننا بالكفر عندما نقول: إن تطبيق الحدود لا يصلح لهذا العصر؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
لا يترك العلمانيون ومن يدور في فلكهم شاردة ولا واردة تخدم فكرتهم التي تقوم على فصل الدين عن الحياة إلا استغلوها شر استغلال.
وشبهة اليوم إن دلت على شيء إنما تدل على جهل هؤلاء بالشريعة الإسلامية وفي القلب منها إقامة الحدود التي يطالبون بعدم تطبيقها؛ لأنها لا تناسب هذا العصر كما يدَّعون!
حد السرقة
السرقة محرّمة بالكتاب والسُّنة والإجماع، وقد ذم الله هذا الفعل الشنيع وجعل له عقوبة تناسبه، فجعل حد السارق أن تقطع يده، قال تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وقال صلى الله عليه وسلم: «تُقْطَعُ اليَدُ في رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»(1)، ولعن النبي صلى الله عليه وسلم السارق لأنه عنصر فاسد في المجتمع إذا تُرك سرى فساده وتعدّى إلى غيره في جسم الأمة، فقال عليه الصلاة والسلام: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ»(2)، ومما يؤكد هذا الحكم أن امرأة مخزومية شريفة سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أسامة بن زيد رضي الله عنه أن يشفع فيها فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ»، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قالَ: «إنَّما أهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ اللَّهِ لو أنَّ فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا»(3).
ولأن قطع اليد أمر عظيم، فإن قطع يد السارق لا يكون إلا عند توفر الشروط التالية:
1- أن يكون أخذ الشيء على وجه الخِفْيَةِ.
2- أن يكون المسروق مالًا محترماً.
3- أن يكون المسروق نِصاباً.
4- أن يأخُذَ المسروق من حرزه.
5- ثُبُوت السرقة، وتكون إما بشهادة عَدْلَيْنِ، أو بإقرار السارق على نفسه.
6- أن يطالب المسروق منه بماله.
7- ألا يسرق من ذي رحم؛ لأن له شبهة ملك في المال، ومن ثم لا يقطع.
8- ألا يكون مضطراً إلى أخذ مال الغير لجوع ونحوه.
فإذا فُقد شرط من هذه الشروط سقط حد السرقة.
وقف عمر بن الخطاب حد السرقة
أصاب النَّاسَ في الجزيرة العربية مجاعةٌ شديدةٌ، وجدبٌ، وقحطٌ، واشتدَّ الجوع حتَّى جعلت الوحوش تأوي إِلى الإِنس، وحتَّى جعل الرجل يذبح الشَّاة فيعافها من قبحها، وماتت المواشي جوعاً، وذلك في عام 18هـ، وسُمِّي هذا العام عام «الرَّمادة»؛ لأنَّ الرِّيح كانت تُسفي تراباً كالرَّماد، واشتد القحط، وعزَّت اللُّقمة، وتسابق الناس في الذهاب إِلى المدينة، بحثاً عن حل لهذه المجاعة لدى أمير المؤمنين رضي الله عنه.
في هذا الجو الملبد بالغيوم وجد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شروط إقامة الحد غير متوفرة وخاصة شرط «ألا يكون السارق مضطراً إلى أخذ مال الغير لجوع ونحوه»، فقام بوقف حد السرقة لا تعطيله، وفرق شاسع بين الوقف المؤقت لتطبيق الحد لعدم توفر شروط إقامته، وتعطيل هذا الحد!
واحتجاج هؤلاء بهذه الرواية للمطالبة بتعطيل الحدود في هذا العصر احتجاج فاسد؛ وذلك لأن عمر بن الخطاب لم يُعَطل نَصَّاً، ولم يُحِلّ حراماً، ولم يُحَرِّم حلالاً، ولم يَعْتبر أن النصوص الواردة في هذا الأمر أصبحت لاغية، فلَم يَقُل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنَّ إِقامة الحد على السارِق أصبح وَحْشِيةً واسْتِهانةً بِكرامة الإنسان، وحِرْماناً للمجتمع من بعض قُوَى إنتاجه.. كما لم يَقُل بأن قطْع يد السارق كان مُلائماً للإنسان وقت نزول الوحي، وإِنَّه فقد صَلاحِيتَّه الآن!
إن ما فعله أمير المؤمنين رضي الله عنه هو دراسته للمَيْدان الذي يَتَنَزَّل فيه حُكْم الله، فرأى أن الشروط لم تتحقق كلها لإقامة الحد، فقد يضطر الإنسان للسرقة حِفْظًا لنفسه من الهلاك لا اختيارًا للسرقة، أو اغْتِصابًا لأموال الآخرين دون جهد أو عمل، فتقع التباسات عديدة، وتختلط البينات بالشبهات، وكما هو معلوم في قواعد الفقه: «ادْرَؤوا الحدود بالشُّبُهات»، و«الضرورات تُبِيحُ المَحْظورات».
إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان حكيمًا في عدم تطبيقه الآلي لحكم لم تتوفر شروط تحقيقه، لأنه فهم بوعي وعمق ملابسات الحكم الشرعي.
ولم يوقف أمير المؤمنين حد السرقة فقط، بل أوقف كذلك نصيب المُؤَلَّفة قلوبهم من الزكاة، ورأى أن الإسلام أصبح عزيزًا بين الناس، فلا يمكن أن يبقى معتمدًا على المؤلفة قلوبهم، وقد روي أنه قال لبعضهم: «إنَّ الله قد أعَزَّ الإسلامَ وأغْنَى عنْكُم».
وحتى تضح الرؤية نقول: القضية برمتها تكمن في تَفَهُّم للشريعة، ودراية بالواقع، وحكمة في تطبيق الأحكام الشرعية، وليست قضية أهواء تريد تعطيل النصوص، وأمير المؤمنين لم ينسخ الآيتين الواردتين في شأْن الحادِثتين: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 60)، ولم يبطل أحكامها، ولم يحل السرقة، ولم يحرم إعطاء سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة.
لم يقل أمير المؤمنين: إن القرآن كان يراعي عصر نزوله ومستوى وعي الناس، وأن علينا نسخ هذه الأحكام بأخرى أكثر «تقدماً» منها، وأكثر ملاءمة لعصرنا وأكثر «إنسانية» كما يقول هؤلاء(4)!
_____________________
(1) أخرجه البخاري (6789)، ومسلم (1684).
(2) أخرجه البخاري (6783).
(3) أخرجه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تحت رقم: (3475).
(4) ظاهرة اليسار الإسلامي، عبدالسلام بسيوني، (1/ 126 – 124) بتصرف.