تتواصل عملية تطوير مناهج التعليم في البلدان العربية، منذ عقود، وعلى مستويات عدة، مصحوبة في أحيان بإملاءات غربية، وربما تنازلات، مع قليل من التطوير الحقيقي، الذي يدفع العملية التعليمية قدماً إلى الأمام.
والمنهج كلمة إغريقية الأصل؛ تعني الطريقة التي ينتهجها الفرد للوصول إلى هـدف معـين، ويشتق منها المنهـاج؛ وهو الطريـق والسبيل الواضح، ومنها منهاج التعليم، ومنهاج التربية، ومنهاج التدريس؛ أي الوسيلة التي تحقق الهدف المنشود.
وعند قراءة ما وراء المنهج، فإننا هنا لا نقف فقط عند مضمون المحتوى الدراسي، بل ننفذ إلى تساؤلات جوهرية ومحورية يقاس بها نظام التعليم في أي بلد، وتقيم بها مخرجاته، منها: لماذا نربي؟ بماذا نربي؟ كيف نربي؟ من نربي؟ ما نتائج التربية؟
ويمكن القول: إن السؤال الثاني فقط كان المعني بعملية التطوير؛ أي قصر عملية التربية والتعليم على المنهج، مع تجاهل متعمد للتساؤلات الأربع الأخرى، المعنية بطبيعة الفرد المراد تربيته، وأسباب الحاجة إلى التربية، وإستراتيجية التعليم، وتقويم العملية التربوية.
ربما ذلك يفسر إلى حد بعيد فشل مخرجات التعليم في عالمنا العربي، أو كونها دون الطموح المأمول، بشكل يجعل البعض يتباكى على نظام التعليم القديم في دول عدة، أو ينادي بالعودة إلى نظام الكتاتيب والخلوات مثلاً، والمدارس النظامية بمفهومها المعروف خلال القرن العشرين.
ولا شك أن مناهج التعليم العربية خضعت لتطوير، لكنه كان مشوباً بقدر كبير من الحذف والتمييع، والمسخ والتغريب، الأمر الذي نال من قيمة وقدر منظومة التعليم، بشكل أفقدها هويتها العربية والإسلامية، وجعل من المدارس والجامعات الأجنبية هدفاً للعرب والمسلمين.
في فلسطين المحتلة، على سبيل المثال، عمد تطوير التعليم الممول من وكالة «الأونروا»، التابعة للأمم المتحدة، إلى التلاعب في المناهج الفلسطينية، عبر محاولة طمس الحقائق وتمرير القبول بالاحتلال، واستهداف الذاكرة الفلسطينية، وتغييب الحق الفلسطيني في تحرير أرضه واستعادة المسجد الأقصى.
كذلك في مصر، استهدفت عملية التطوير رفع نبرة الانتماء للفراعنة، والحد من الجرعة الدينية في المناهج، مع اختصار مخل ومقزّم لبطولات وفتوحات قادة المسلمين، إضافة إلى زيادة مساحة القبول بالاختلاط والتبرج، وترويج قيم السلام وقبول الآخر في إشارة إلى العدو «الإسرائيلي».
ومنذ سنوات، يجري في الكويت العمل نحو تطبيق برنامج حديث لإصلاح التعليم، وتشكيل مجتمعات للتعلم لقيادة عملية نقل المعرفة، مع وضع منهج دراسي كويتي خالص يعكس القيم والهواجس الوطنية، لكن مشاركة البنك الدولي في المشروع تثير مخاوف منطقية إزاء التطوير المزعوم.
في ضوء ذلك، قد يكون من الواقعية الإقرار بأن مناهج التعليم العربية تعرضت لتطوير من منظور غربي، أو تلاعب أيديولوجي، أو على أقل تقدير جرى تضمينها أهدافاً وقيماً تتعارض مع الهوية، وقد تصطدم بالتراث، وقد تخالف صحيح الدين، وقد تقفز على التقاليد والأعراف الاجتماعية.
ولا شك في وجود تراجع إزاء الاحتفاء بالحضارة الإسلامية، والتاريخ العربي، واللغة العربية، مع استبدال ما يسمى مادة الثقافة الدينية بكتاب التربية الإسلامية، التي يشترك في دراستها الطلاب المسلمون وغير المسلمين، مقابل علو واضح يرفع من شأن اللغات الأجنبية، ويدرس العلوم المختلفة بلغات إنجليزية وفرنسية، بل والسخرية من لغة الضاد إعلامياً وفنياً بشكل ينفر الطلاب منها.
تقول د. سهير أحمد السكري، اختصاصية اللغويات في جامعة جورج تاون: قد آمن المستعمرون الإنجليز والفرنسيون بأن المعركة مع المسلمين يجب أن تبدأ من المدرسة، بتدمير التعليم الديني، وذلك بنشر المدارس الأجنبية بالبلدان العربية، ومحاربة اللغة العربية.
ويجري تنفيذ ما سبق على قدم وساق، وهو ما وصل بحال طالبة في إحدى تلك المدارس إلى سؤال داعية: هل أستطيع أن أصلي باللغة الإنجليزية؟! لأنها تحسن اللغة الإنجليزية أكثر من العربية، وهو حال الكثير من أبناء دول المغرب العربي الذين يتقنون الفرنسية بشكل يفوق إتقانهم للغة العربية.
يقول مؤلف كتاب «الإسلام المقاتل»، الكاتب الإنجليزي «E.H.JANSER»: «إن إنجلترا وفرنسا أجرتا بحوثاً عن أسباب قوة وصلابة الإنسان العربي (المسلم)، وتمكنه من فتح البلاد المحيطة به من الهند إلى تخوم الصين، فوجدت أن السر في ذلك كان طريقة تعليم الطفل العربي، وكيف أنه بدأ قبل الخامسة بحفظ القرآن، وختمه»، ولعل ذلك يفسر حملات التضييق على الكتاتيب والمدارس الدينية في بلدان عربية تدين بالإسلام.
ويقول المستشرق «شانلي»: «إن أردتم أن تغزوا الإسلام، وتخضعوا شوكته، وتقضوا على هذه العقيدة، التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة، فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم، والأمة المسلمة؛ بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم المعنوي، وكتابهم القرآن».
يجب التأكيد على أن مناهج التعليم تمثل خط الدفاع الأول أمام تحصين الهوية الإسلامية، والشخصية العربية، لذلك تعد المدخل الغربي والأمريكي تحديداً لإعادة صياغة العقل العربي، وجعله متماهياً مع الثقافة الغربية، ومتقبلاً لمفرداتها وأدواتها من ملبس ومأكل ومشرب، امتداداً إلى قيمها وطقوسها وظواهرها.
قل، إن شئت: نحن منذ عقود بصدد غزو ثقافي وتعليمي وفكري وقيمي ولغوي، استبدل الكتاب والمدرسة والإنترنت بالدبابة والصاروخ والرصاص، في محاولة للتغيير بدعوى التطوير، والمسخ بدعوى التحديث، والعلمنة بدعوى التجديد، والتآمر تحت لافتة التعاون المشترك.