بعد سنوات من التعاون والتفاهم والعلاقات المتنامية في كل المجالات، تمر العلاقات التركية الروسية باختبار صعب؛ بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت طوراً جديداً في الأشهر القليلة الماضية.
تقارب ملحوظ
حكمت العلاقات التركية الروسية على مدى القرون الماضية حالةٌ من العداء الدائم والتنافس الجيوسياسي والحروب المستمرة، لا سيما في عهد الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، كما أن مطامع الاتحاد السوفييتي السابق في المضايق التركية، بل وبعض محافظاتها، كانت السبب الرئيس لاتجاه تركيا نحو الكتلة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وطلبها عضوية حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو ما شكّل سياستها الخارجية لعقود طويلة.
بعد انتهاء الحرب الباردة، وتحديداً مع تسلم حزب العدالة والتنمية الحكم في البلاد، بدأت تركيا مسيرة التقارب مع روسيا، بحثاً عن سياسة خارجية مستقلة قدر الإمكان عن الغرب لتحقيق مصالح تركيا الذاتية، وهكذا تنامت العلاقات الاقتصادية والتجارية على وجه الخصوص بين البلدين، حتى الثورة السورية التي وضعتهما على طرفي نقيض.
بلغ الخلاف التركي الروسي حول سورية ذروته في أزمة إسقاط المقاتلة الروسية فوق الأجواء التركية في نوفمبر 2015م؛ التي سببت شبه قطيعة بين البلدين، لكن مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل في تركيا صيف 2016م حملت أخباراً أفضل للعلاقات الثنائية.
خلال سنوات قليلة فقط، نقل الجانبان علاقاتهما لمرحلة متطورة من التعاون في مختلف الأصعدة، ولئن كان الاقتصاد والتجارة والسياحة في مقدمة مجالات التعاون المتنامية بينهما، فإن العلاقات وصلت لمستويات إستراتيجية، فنفذ البلدان مشاريع عملاقة في مجال الطاقة؛ مثل «خط السيل التركي» للغاز الطبيعي، ومحطة «أك كويو» للطاقة النووية، ورغبة روسيا في تأسيس مركز على الأراضي التركية لنقل الغاز الروسي للدول الأوروبية، كما اشترت تركيا –وهي عضو مهم في «الناتو»– منظومة «إس 400» الدفاعية الروسية؛ وهو ما سبب لها توتراً لم يهدأ بعد مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعرّضها لعقوبات من الأخيرة.
وزيادة على كل ما سبق، نسج الجانبان مجموعة من التفاهمات المعلنة وغير المعلنة في كل من سورية وليبيا، كما تعاونا في الحرب الأذربيجانية الأرمينية الأخيرة، وفي مرحلة ضمان السلام فيما بعدها، وقد ساهمت العلاقات الشخصية بين الرئيسين التركي والروسي «أردوغان» و«بوتين» في إنجاز هذه التفاهمات وتجنب الصدام بين البلدين أكثر من مرة، رغم استمرار الخلاف والاختلاف في كثير من الملفات، وفي مقدمتها سورية وليبيا.
اختبار صعب
بيد أن الحرب الروسية الأوكرانية شكّلت تحدياً من نوع مختلف للعلاقات المتنامية بين البلدين؛ ذلك أن أنقرة تعرضت خلال السنوات الماضية لضغوط متزايدة من حلف «الناتو» والولايات المتحدة بسبب تقاربها مع موسكو، وكانت ترفض هذه الضغوط من باب أن الحرب الباردة قد انتهت؛ وبالتالي لم يعد ثمة حالة من العداء والمواجهة المباشرة مع روسيا من جهة، ومن جهة أخرى كانت تقول: إن تقاربها مع موسكو مدفوع جزئياً بتنكر حلفائها في «الناتو» -ولا سيما واشنطن- لمتطلبات أمنها القومي، وما يتعلق بحاجتها لمنظومة صاروخية دفاعية لم تستطع شراءها من أي منهم، وكذلك الدعم الأمريكي المستمر للمنظمات الانفصالية في الشمال السوري.
وهكذا استمرت أنقرة في سياسة خارجية شبه متوازنة بين موسكو وواشنطن، رغم أنها لم تخل بالتزاماتها داخل حلف «الناتو»، حيث تعتبر الجيش الثاني فيه بعد الجيش الأمريكي، حتى مع بداية الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، ورغم إدانتها له وتأكيدها وحدة الأراضي الأوكرانية وتكرارها لرفضها ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014م، فإنها مايزت موقفها عن «الناتو» بشكل واضح.
فالتصريحات التركية تحمل منذ البداية نبرة أقل حدة تجاه روسيا من التصريحات الأمريكية والأوروبية والأمانة العامة لـ«الناتو»، كما رفضت أنقرة أن تنخرط تماماً في العقوبات الغربية على موسكو من باب أنها ليست عقوبات من الأمم المتحدة، وأنها لا تخدم هدف إيقاف الحرب، وفي مقابل المقاطعة الغربية للمسؤولين الروس، استمرت القنوات الدبلوماسية والسياسية بين تركيا وروسيا بشكل ملحوظ بما في ذلك الاتصالات والزيارات واللقاءات.
ترى الدول الغربية أن هذا الموقف التركي غير كافٍ، وأنه يشجع روسيا على استمرار حربها في أوكرانيا، بينما ترى أنقرة أن هذا «الحياد الإيجابي» في الحرب واستمرار علاقاتها الجيدة مع الطرفين وخصوصاً موسكو يساعدها على ممارسة دور الوسيط بينهما، وأنه ساعدها على تحقيق اختراقات مهمة حتى اللحظة، مثل جمع وزيري خارجية البلدين على طاولة الحوار والتفاوض، وإبرام اتفاق تصدير الحبوب، ثم اتفاق تبادل الأسرى.
بيد أن التطورات الأخيرة في الحرب الروسية الأوكرانية جعلت موقف أنقرة أكثر حساسية ودقة، فقد أعلنت كييف عن هجوم مضاد لدحر القوات الروسية، وحصل تمرد «فاغنر» في روسيا، وخصصت قمة «فيلنيوس» لحلف «الناتو» لدعم أوكرانيا، بل وناقشت إمكانية ضمها للحلف.
كما تزامنت هذه التطورات مع زيادة الضغوط من الولايات المتحدة والحلف على تركيا لقبول انضمام السويد للأخير، إذ تشترط تركيا تطبيق السويد لالتزاماتها في الاتفاقات المبرمة معها بخصوص مكافحة الإرهاب، وقد وافقت أنقرة على إحالة الملف للبرلمان، من جهة أخرى، فقد استقبلت تركيا الرئيس الأوكراني «فلودومير زيلينسكي» وسلمته ضباطاً أوكرانيين كانوا بحوزتها بموجب اتفاق تبادل الأسرى مع روسيا، واتهمتها الأخيرة بانتهاك الاتفاق بسبب ذلك.
لم تقف روسيا عند التصريحات التي اتهمت تركيا بعدم الالتزام بالاتفاق والانحياز لأوكرانيا، ولكنها أعلنت انسحابها من اتفاق تصدير الحبوب الذي «لم يعد هناك من داع لتجديده»، وفق المسؤولين الروس، وأجلت زيارة كانت مقررة لـ«بوتين» لتركيا، وفتشت سفينة تابعة لشركة تركية (وإن حملت علم دولة أخرى) في البحر الأسود، مهددة بتكرار الأمر مع كل السفن المتجهة لأوكرانيا؛ ما أنذر بإمكانية حصول تصعيد في حوض البحر الأسود.
هذا التوتر في العلاقات مع روسيا لم يشفع لها فيما يبدو لدى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تناقلت وسائل إعلام غربية خبراً مفاده أن واشنطن تدرس إمكانية فرض عقوبات على أنقرة بسبب علاقاتها مع موسكو، فضلاً عن استمرار مماطلتها في إبرام صفقة مقاتلات «إف16» لأنقرة.
وعليه، فإن استمرار الحرب الروسية الأوكرانية من جهة، وتطوراتها في المجالين الميداني والسياسي من جهة أخرى، يضيّقان الخيارات على تركيا فيما يخص التوازن النسبي الذي تريده بين روسيا والغرب، وكلما ازدادت حدة التطورات في الحرب؛ بات الموقف التركي أكثر دقة وحساسية، وقد يترتب عليه الكثير، بما في ذلك دراسة اتخاذ مواقف مختلفة.
فحصول تصعيد عسكري أو صدام بين روسيا وأوكرانيا في البحر الأسود سيفرض على تركيا تحديات عديدة، تبدأ من مسؤولياتها كدولة مجاورة لكلتيهما من البحر، وتملك السيطرة على المضايق وفق اتفاقية «مونترو»، ولا تنتهي بما يمكن أن يتعرض له أمنها القومي من أخطار جراء التصعيد، فضلاً عن أن كل انخراط بدرجة أكبر من حلف «الناتو» في الحرب سيفرض عليها تحديات أكبر، بشكل بديهي.
ولذلك، فإن استمرار مسار الحرب بهذه الطريقة سيدفع أنقرة لاتخاذ مواقف أبعد قليلاً من الحياد الإيجابي الذي خطته لنفسها منذ بداية الحرب، بمعنى الانحياز أكثر لصالح أوكرانيا و«الناتو»، لكنها ستبقى حريصة، ما استطاعت، على إبقاء حالة التوازن النسبي في العلاقات بين الجانبين، إذ تدرك أن التوازن هو الذي يحقق لها أكبر قدر ممكن من المصالح ويجنبها أكبر قدر ممكن من الأخطار كذلك.