تباينت مفاهيم القوة منذ أواسط القرن الماضي عما كانت تعنيه فيما قبله لتشمل أشكال أخرى من الوسائل المستحدثة، أو فيما يسمى بالقوة الناعمة، واستطاعت الدول العظمى أن تضيف تلك القوة إلى قوتها فصار تأثيرها مضاعفا على الآخرين، القوة العسكرية من جانب، والقوة الناعمة بما تشمله من فنون مختلفة خاصة فنون السينما والرياضة والإعلام والأدب.
واستطاعت تلك الدول أن تفرض نوعاً من الهيمنة الثقافية علي العالم بينما ظلت البلاد العربية مجرد متلق للمنتج الفني والأدبي الغربي، أو تقليد أعمى لأعمال لا تخرج عن إطار الإسفاف وتغييب وعي الناس بما يقدمه من قضايا لا تعالج واقعاً، ولا تقدم قيمة تربوية ناجحة، وظلت الحركة الإسلامية خارج إطار تلك القوة تماماً لأسباب عديدة أهمها الاختلاف الذي ما زال قائماً حول مشروعية تلك الفنون من الأساس، علاوة على كلفتها العالية بالطبع والتي قد تحتاج لميزانية دول، أو على أقل تقدير مؤسسات فنية ضخمة.
لقد فشلت القوة الاستعمارية الخشنة في بلادنا، غير أنها نجحت في العودة بصورة أكثر نعومة وأكثر قوة عبر أفلام هوليود بأفكار وهوية وأخلاق غربية خالصة في مقابل صرامة فكرية وجمود عقلي عربي إسلامي في خوض المجال.
ويرجع مصطلح القوة الناعمة لجوزيف ناي ــــ الذي ولد في العام 1937 ــ أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ـــــ لأول مرة ليعبر به عن التأثير القوي الذي يحدثه الفن والأدب في الرأي العام لإحداث تغيير متعمد أو غير متعمد.
ويعرّفها ناي في كتابه “القوة الناعمة” بأنها (القدرة على تحقيق الأهداف المنشودة من التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة وذلك استناداً إلى جاذبية نظامها الاجتماعي والثقافي ومنظومة قيمها ومؤسساتها بدل الإرغام أو التهديد).
وقد حققت الولايات المتحدة الأمريكية انجازات عديدة نتيجة نهجها ببراعة واتخاذها الوسائل الناعمة منهاجاً لنشر ثقافتها والتي انتشرت تحت ستار ما يسمى بالعولمة.
قيامة أرطغرل
وبين مجموعة من الاخفاقات العربية والتجارب الدرامية التاريخية والاجتماعية الفاشلة، نجد مارداً إسلامياً قد دخل حلبة الصراع الناعم ليقدم نموذجاً بارع النجاح للفن التركي بمسلسل “قيامة أرطغرل” والذي دخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية كأفضل عمل درامي في تاريخ الدراما العالمية وقد تخطت عوائده المليـار دولار وتم ترجـمته إلى تسعة وثلاثين لغة، وعدد مشاهدة وصل إلى 3 مليار مشاهد حول العالم، وذلك إلى تجارب تاريخية أخرى لا تقل براعة عنه.
والمتابع لهذا المسلسل التاريخي يلاحظ الإبداع في تقديم القيم الاسلامية العليا وترسيخ مفاهيم عجزت الكتب المنهجية عن الوصول للقارئ رغم عظمتها ورغم تكدس المكتبة العربية بها.
لقد أثبت الفن التركي خاصة في السنوات المعدودة الأخيرة أن الفكرة حين تجد من يتبناها بشكل لائق، فسوف تجد طريقها للنجاح والكسب المشروع واختصار الطريق لقلوب النشء المتعلق بالفن الراقي علي عكس ما يروج البعض بأن الجمهور لا يهتم إلا بالنوعية الهابطة من الفنون المعروضة.
العمل الفني الإسلامي
استخدام الفن كأسلوب من أساليب نشر الدعوة أو التعريف بها ليس بدعاً في تاريخ المسلمين، ففي فجر الرسالة كان حسان بن ثابت يصدح بكلمة الحق في أشعاره، ويهجو من يحاول النيل من قيمة النبوة، وهكذا كان نهج الخلفاء وأمراء المؤمنين من بعده، وهو لون من ألوان الفنون.
ولو كان المجتمع حينها يعرف فنوناً غيره لانتهجها الدعاة لتقريب الصورة للناس، فالفكرة قائمة ويمكن البناء عليها، والنماذج التي قدمت حديثاً ولاقت نجاحاً فعلياً فاق كافة الأعمال الأخري، تلك الأعمال التي صنعت لتحريك الغرائز وتشويه القيم.
ثم لنحاول المقارنة بالنسبة للمتلقي من الشباب أو الأطفال أيهما أفضل: أن أقدم المعلومة التاريخية، أو القيمة التربوية في قالب درامي فني جاذب لطيف أو مثير لحفيظته في البحث والمعرفة والمتابعة؟ أم تقديم النص الجامد من خلال كتاب أو خطبة أو درس لأترك مجال الفن للغير يعبث بالمعتقدات والهوية؟ أيهما أقرب للنشء وأكثر تأثيراً؟.
لقد شوه الفن المعروض على الساحة العربية الكثير من القيم مثل تشويه صورة الزوجة الثانية ومحاولة تحسين العلاقات غير المشروعة وتسميتها بمسسميات أخرى، كما قامت بتشويه صورة المتدين فضلاً عن تشويه التاريخ ذاته، والحل واضح المعالم الآن ولا حجة لأحد في التقاعس عن محاولة خوض المجال من المختصين والمهتمين بمستقبل الأمة.
الفن واللغة العالمية المشتركة
لقد أصبح الفن اللغة العالمية المشتركة، والمعبر الناعم عن مدى قوة النظام أو ضعفه، وها هو الفن الأمريكي الذي سيطر علي العالم لعشرات من السنوات ظل يقدم رؤيته الأحادية في قضايا كبرى حتى استطاعت فرنسا واليابان أن تدخلا في عالم الانتاج الفني وتنافسا هوليود في مجال السينما، حتى أنه في السنوات الأخيرة لم يدرك الملايين أحداث الحرب العالمية وبشاعتها وما فعلته بالإنسانية إلا بعد تقديم سلسلة من الأفلام تتحدث عن بشاعة تلك الحرب والخسائر الانسانية الفادحة.
وأما على الجانب العربي فقد كان الانحطاط الأخلاقي وانتشار ثقافة كأس الخمر والسيجار للشاب المتحرر المتجدد المتغرب متعدد العلاقات النسائية هو محور الأعمال الفنية المصرية منذ ستينات القرن الماضي، ولم تفلح السينما المصرية إلا في تقديم عدد محدود جداً ربما يكون معدوداً على الأصابع الواحدة من الأعمال التي يمكن أن تدخل في إطار المنافسة على أعمال جدية خاصة بعد نصر السادس من أكتوبر.
لقد تعددت صور الحوار والتواصل العالمي وتعددت وسائله عبر وسائل التواصل الاجتماعي تارة، وعبر الفنون المختلفة تارة أخرى ، وعبر الرسائل الأدبية وحركة الترجمة النشطة علي مدار الساعة بعد أن صار العالم قرية واحدة، ولم يعد هناك خيار أمام المعنيين بالعملية التربوية ومستقبل النشء الذي تعددت حوله جواذب ثقافية مخيفة في بعض صورها وقد عجزت الأسرة وحدها في مواجهة تلك التيارات التغريبية العنيفة ولم يعد يحدها حدود تذكر بعد دخول شبكة الانترنت لكل بيت عربي دون قدرة على منعه أو تقليل تأثيره إلا بتقديم بديل قوي لا يخاطب أبناءنا وحدهم، وإنما يخاطب العالم أجمع كما حدث بالفعل في تقديم تاريخ الدولة العثمانية.
ثراء التاريخ الإسلامي
والتاريخ الإسلامي غني بالبطولات وبالغ التأثير إذا تم تقديمه بالشكل المناسب، والمسائل الاجتماعية التي يمكن معالجتها بشكل فني كثيرة كذلك، وقد تقاعست الأمة طويلا في خوض غمار ذلك المجال، وآن الأوان أن تنهض خاصة وهي تملك كافة المقومات ولن تعدم فنانين من الشباب يتم تربيتهم واحتوائهم كفنانين وكتاب ومحللين ومخرجين، هو مجال يجب اقتحامه، وقد تأخرنا كثيراً.
إن على العرب عامة، ودول الخليج خاصة أن تسرع لتغطية تلك الحاجة ولن تعدم كسباً، والمكتبة العربية والإسلامية تذخر بالآداب التي تصلح لتحويلها أعمال فنية ضخمة مضمونة النجاح والانتشار ولنتذكر الأثر البالغ الذي تركته دولة قطر بتنظيمها الأسطوري لكأس العالم وكيف أنها فرضت على العالم احترامها وتقديرها وإعادة النظر في النظرة للإنسان العربية حين تتاح له الفرصة للإبداع، وكيف يمكن أن يغطي احتياجات العالم الإنسانية والأخلاقية، تلك الجوانب التي افتقدها طويلاً، وقد آن الأوان أن تصل إليه مفاهيمها التي لن تصل بالسيف، بل بالقوة الناعمة التي افتقدناها.