يقرر الكونجرس الأمريكي، في 24 أكتوبر 1995م، اعتبار القدس عاصمة أبدية لـ«إسرائيل»؛ لأنها كما يقول: «الوطن الروحي لليهودية»!
وتشرع الحكومة الأمريكية بعد هذا القرار في بناء سفارتها بالقدس على أرض مملوكة للوقف الخيري الإسلامي!
وحتى الغزو الأمريكي للعراق، في مارس 2003م، يعتبره الرئيس الأمريكي بوش الابن حربًا مقدسة عادلة بمقاييس القديس أوغسطين (354 – 430م)، والقديس توما الأكويني (1225 – 1274م)(1)، وهي للقضاء على صدام حسين بختنصر بابل الذي يهدد «إسرائيل»، ويعرقل عودة المسيح!
وفي هذا التنظير المسيحي الصهيوني يقول القس الأمريكي دافيد بريكنر: «إننا نعرف أن تدبير بابل الذي ورد في الإصحاح 18 يعني تدمير العراق»!
كما يقول القس تشارلز داير، أستاذ اللاهوت في جامعة دالس: «إن إصحاح إشعيا 13 يشير إلى قيام صدام حسين، وإلى غزوه للكويت، وذلك لإقامة قاعدة للهجوم على «إسرائيل».. فصدام هو خليفة نبوخذ نصر (605 – 562ق.م) (الذي هزم الإسرائيليين وسباهم إلى بابل ودمر الهيكل) وذلك بسبب عداء صدام لـ«إسرائيل»، وبسبب نواياه لإعادة بناء بابل»(2)!
وهكذا نظَّرت الأساطير المسيحية الصهيونية لدمار العراق على يد بوش الابن هولاكو القرن الحادي والعشرين دمارًا فاق ما صنعه هولاكو القديم المغولي (614 – 663هـ/ 1217 1265م).
وفي أبريل 2004م، يعطي بوش الابن لأرييل شارون، رئيس وزراء «إسرائيل» رسالة الضمانات التي تحرم اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة الذي قررته الشرعية الدولية بالقرار (194)، وهي (الرسالة) التي تفوقت على «وعد بلفور» عام 1917م إذ حرمت الفلسطينيين حتى من الحقوق المدنية والدينية التي نص عليها «وعد بلفور».
وفي الذكرى الستين لقيام الكيان الصهيوني، في مايو 2008م، يخطب بوش الابن بالكنيست الصهيوني خطابًا توراتيًّا يقرر فيه أن «إسرائيل» ليست 7 ملايين نسمة، وإنما هي 207 ملايين نسمة؛ لأن أمريكا هي جزء متمم لـ«إسرائيل»(3)! كما يقرر يهودية الدولة العبرية أي التشريع لطرد العرب الذين يعيشون فيها!
تلك هي الأساطير الدينية النصرانية الغربية (المغلفة والمحركة) للأهداف الاستعمارية الغربية من وراء استعمار الشرق ونهب ثرواته واختطاف القدس وفلسطين.
أما عن الأساطير اليهودية، التي تزعم أن لليهود حقوقًا في القدس وفلسطين فيكفي لتفنيدها ودحضها بالمنطق العقلاني والعقلانية المنطقية أن نقول:
إن اليهودية التي ينتسبون إليها هي شريعة موسى عليه السلام التي جاءت بها التوراة، وموسى عليه السلام وُلد ونشأ وبعث في مصر ونزلت عليه التوراة بمصر باللغة الهيروغليفية، ثم مات ودفن بمصر قبل غزو بني إسرائيل لأرض كنعان فلسطين وقبل نشأة اللغة العبرية التي هي في الأصل لهجة كنعانية، فموسى عليه السلام لم يدخل فلسطين، ولم تر عينه القدس، ومن ثم فلا علاقة لليهودية وشريعة موسى بالقدس ولا بفلسطين.
وإذا كانوا يقولون: إنهم يصلون إلى القدس كما يصلي المسلمون إلى مكة فإننا نقول: إن الصلاة إلى بلد لا تستدعي ولا تتطلب ولا تبرر الاستيلاء عليه، فكل المسيحيين من كل الأقطار والقارات والقوميات يصلون إلى القدس، دون أن يكون ذلك داعيًا ولا مستلزمًا ولا مبررًا لأن يخرجوا من بلادهم ويحتلوا القدس!
وكل المسلمين من كل الأقطار والقارات والقوميات يصلون إلى مكة المكرمة، دون أن يكون ذلك داعيًا ولا مستلزمًا ولا مبررًا لأن يحتل هؤلاء المسلمون الحرم الذي إليه يتوجهون!
وإذا كان تفرد الإسلام بالاعتراف بكل الآخرين، وحماية عقائدهم ومقدساتهم، وإذا كان التاريخ الإسلامي في القدس قد طبق وجسد هذه الحقيقة، فإن عروبة القدس وإسلاميتها هي الضمانة لإشاعة قدسيتها لكل أصحاب المقدسات وللنأي بها عن الاحتكار من قبل أهل دين من الأديان.
ولقد لخص هذه الحقيقة حقيقة إسلامية القدس وعروبتها، الضامنة لإشاعة قدسيتها بين كل أصحاب المقدسات صلاح الدين الأيوبي الذي استرد أمانة عمر من الصليبيين، وذلك عندما كتب إلى الملك الصليبي ريتشارد قلب الأسد (1157 – 1199م) فقال: «القدس إرثنا كما هي إرثكم، من القدس عرج نبينا إلى السماء، وفي القدس تجتمع الملائكة، لا تفكر بأنه يمكن لنا أن نتخلى عنها كأمة مسلمة، أما بالنسبة إلى الأرض فإن احتلالكم فيها كان شيئًا عرضيًّا، وحدث لأن المسلمين الذين عاشوا في البلاد حينها كانوا ضعفاء ولن يمكنكم الله أن تشيدوا حجرًا واحدًا في هذه الأرض طالما استمر الجهاد».
نعم.. هذا هو الطريق، وهذا هو المنهاج.
لقد بدد صلاح الدين الأيوبي بالجهاد أساطير الكاثوليكية الصليبية في التاريخ الوسيط للصراع.
وبددت ثورات مصر وتضحيات شعبها أساطير بونابرت وأحلامه مع مطلع العصر الحديث.
واليوم، لا سبيل أمام أمتنا لتبديد أساطير المسيحية الصهيونية والعنصرية اليهودية إلا بالجهاد فهو «رهبانية» أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا كان الوعي بتاريخ هذا الصراع الطويل هو لونًا من الجهاد؛ لأنه سلاح من أمضى الأسلحة في مواجهة التحديات التي قامت وتقوم على أرض القدس وفلسطين، فإننا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل صفحات هذه الدراسة إسهامًا في استرداد أمانة عمر إلى أحضان العروبة والإسلام.
وصدق الله العظيم: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج).
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء (شدة ومحنة) حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: «ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس» (رواه الإمام أحمد).
تلك هي مكانة القدس في عقيدة الإسلام وحضارته وتاريخه، وتلك هي أساطير الصليبية والمسيحية الصهيونية حول المدينة المقدسة التي كانت دائمًا وأبدًا رمز الصراع وبوابة الانتصارات.
_______________________
(1) مجلة «نيوز ويل» الأمريكية، الطبعة العربية، عدد 11/ 3/ 2003م.
(2) الدين في القرار الأمريكي، ص52.
(3) انظر: تفاصيل هذه الحقائق وأمثالها بكتابنا «في فقه الصراع على القدس وفلسطين»، طبعة الشروق القاهرة 2005م.
المصدر: «مجلة الأزهر»، 12 أبريل 2015م.