قال لي بعض الأصدقاء الذين يقيمون في فنلندا: حينما يذهب أولادي إلى المدرسة كأنهم في نزهة!
قلت: لا عجب، فإن فنلندا تحتل المرتبة الأولى في جودة التعليم، والإنفاق المالي هناك على التعليم هو الأعلى.
وتذكرتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطلق أسرى «بدر» إذا قام الأسير بتعليم عشرة من صبيان المسلمين، وتلك إشارة إلى تقديم حفظ العقل على المال.
والحق أنها سياسة في غاية الذكاء، فخير استثمار يقوم به المرء الاستثمار في الإنسان، والعناية بتنميته عبر التعليم ووسائله.
قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهم لم يُبن مُلك على جهل وإملاق
إن ألمانيا، وهي الدولة التي أقيم فيها، ذائعة الصيت في الجودة ودقة الصناعة، وليس ذلك من فراغ، فهي تحتل المرتبة الأولى في أوروبا والرابعة في العالم بين أكثر الاقتصادات الوطنية إنفاقاً على البحث العلمي بالعالم، فقد أنفقت في الأعوام الأخيرة 107 مليارات يورو، ذهب منها 19.3 ملياراً إلى الجامعات، و15.6 ملياراً إلى المؤسسات البحثية غير الجامعية، بحسب مقال تامر غزال على «الجزيرة نت»، حول ألمانيا وريادة البحث والتطوير.
فكم تنفق الدول العربية على التعليم والبحث العلمي؟
هناك دراسة جيدة لمن شاء أن يرجع إليها حول واقع البحث العلمي في البلاد العربية ليقف على أوجه النقص والخلل، للباحثة د. هادية البهلول، باحثة في علم الاجتماع.
واقع التعليم في الوطن العربي
دعوني أقرر أن الحكم الدقيق على واقع التعليم في العالم العربي لن يحيط به مقال أو مقالات، فهذا يتطلب جهداً بحثياً كبيراً، وعقد ندوات ومؤتمرات، غير أن الناظر إلى الواقع لا يحتاج إلى كثير من التأمل للحكم بأن هناك تأخراً وتراجعاً يحتاج إلى وقفات جادة من الأفراد والمؤسسات والدول إذا أردنا أن ننهض بالعالم العربي نحو التقدم والازدهار.
غير أنَّ هناك تفاوتاً واضحاً بين أنظمة التعليم في العالم العربي بجميع مراحله ما بين دولة وأخرى.
لا نستطيع أن نعزل أسباب تأخر التعليم في العالم العربي عن حالة التأخر والتخلف التي تعانيها الأمة في العالم العربي في مجالات كثيرة، ونرى أن النهضة لا تقتصر على جانب دون غيره، وأن التخلف في حال وقوعه يسري على جميع القطاعات، وتأملوا حالة الأمم في أوج قوتها أو في لحظات ضعفها واحتضارها.
كما أن تَغير النظام الاجتماعي حول العالم وتغير القيم والمبادئ التي توجه فلسفة التعليم وفقاً لغايات المجتمعات يؤدي دوراً كبيراً في تطور وتغير نُظم التعليم ووسائله وأدواته، وغياب هذا الملحظ أدى إلى تخلف واقع التعليم في العالم العربي من جانب، أو إلى تغير وجهته وفلسفته نحو تبني قيم الغرب بحلوها ومرها دون غربلة وتنقية، لتنتفع بكل جديد نافع، وتترك ما يتعارض مع قيم الإسلام وتعاليمه، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام الطاهر بين عاشور، في كتابه النفيس «أليس الصبح بقريب»، وأرجو أن يطلع عليه كل مصلح غيور على مستقبل التعليم في عالمنا العربي والإسلامي.
عناصر العملية التعليمية والحلول الكامنة
تتألف عناصر العملية التعليمية في المراحل التعليمية من عناصر عديدة، وسوف أتناول بعضها مبيناً أوجه القصور والحلول:
أولاً: المعلم:
المعلم صانع النهضة والحياة والمجتمع والأجيال، وكل محاولة لإصلاح التعليم تتجاوز المعلم أولاً فحكمها إلى الفشل، فهو الذي يقدم المنهج ويوظف الأدوات ويتجاوز بطلابه الصعاب، ويزين لهم العلم ويحببه إلى قلوبهم، ويكشف عن المواهب وينميها، والقدرات ويطورها، والنفوس ويزكيها.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه: «إنما بعثت معلماً» (رواه ابن ماجه)، وقال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2).
لماذا أُسست كليات التربية في العالم العربي؟ وهل حققت المراد منها؟
إن مقصود تلك الكليات أن تصنع مُعلماً مكتمل البنيان العلمي والنفسي والعملي، متشبعاً بالقيم العليا للجميع وحاجاته وقضاياه، ليقدم مضموناً يراعي خصوصية الواقع ويستجيب لمتطلباته.
هل يحظى المعلم في الوطن العربي بالتأهيل العلمي المعتبر؟
هل يتناسب الدخل المالي للمعلم مع عظم مهمته وخطر رسالته؟
هل يخضع المعلم لدورات تأهيلية جادة؟
هل تقوم الدولة بمؤسساتها وأجهزتها الإعلامية بتسويق صورة رفيعة القدر عن المعلم؟
يحزنني القول: إن المعلم لا يحظى بالقدر المقبول من التكوين والتأهيل، ولا ينال حقه المالي على جهده ودوره، وأما عن صورته وقيمته في عيون الأجيال، فقد أدى الإعلام دوراً سيئاً في رسم صورة سلبية في أذهان الأجيال، فمع الممثل نجيب الريحاني في فيلم له يجسد شخصية معلم اللغة العربية في مشاهد هزلية، مروراً بـ«مدرسة المشاغبين»، التي أفسدت أجيالاً.. وما زالت.
في مطارات متعددة حينما يفحص ضباط الجوازات في أوروبا ويجدون فيها المهنة «معلماً» تجد ردود الفعل إيجابية، كلها تقدير وتبجيل لصاحبه.
إذا كان اختيار قبطان الطائرة يخضع لمعايير دقيقة وتدريبات عالية، فإن المعلم أشد خطراً.
يجب أن يلقى المعلم تكويناً متنوعاً راسخاً، وتكريماً ومادياً ومعنوياً.
وعلينا أن نستكمل مقومات المعلم المهنية والمعرفية والإنسانية والأخلاقية.
ثانياً: مناهج التعليم:
تؤدي مناهج التعليم عند أي أمة من أمم الأرض دورها في الوصول بالمجتمع إلى غاياته، فإذا أرادت أمة أن تحافظ على هويتها وتقاليدها فعليها وضع نظام تعليمي يصل بها لتلك الغاية، كما فعلت الجزائر عبر استقلالها من الاحتلال الفرنسي، وكان لرجال الأزهر الشريف وغيرهم الدور واليد في نشر العلم والوعي، وهو ما قام به من قبل عبدالحميد بن باديس.
وربما نعود إلى القرن الخامس الهجري لنشهد الحركة التعليمية الواسعة لمواجهة خطر الحركات الباطنية، فنشأت المدارس النظامية التي تنسب لوزير الدولة السلجوقية نظام الملك، وانتشرت تلك المدارس وقامت بدور عظيم في تحصين الأجيال، وكان ممن تفرغوا للعمل بها الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي وغيره,
وقد تناول د. أحمد شلبي، في رسالته للدكتوراة في منتصف القرن الماضي التي كتبها باللغة الإنجليزية ثم ترجمها إلى اللغة العربية «تاريخ التربية الإسلامية»، تاريخ تلك المدارس وأماكنها ونظامها.
وحينما تسلم نور الدين محمود زنكي، رحمه الله تعالى، مقاليد الأمور وجد المذهب الشيعي قد سيطر وهيمن، فكانت خطته لإعادة التسنن مرة أخرى عبر مناهج التعليم، وكذا فعل صلاح الدين الأيوبي، رحمه الله تعالى.
والجامع الأزهر الذي أُسس من أجل نشر المذهب الشيعي، أراد الله تعالى أن يغدو منارة للعالم الإسلامي ومعقلاً وموئلاً للعلم ومثابة لطلابه، ولكن المكائد تُحاك له ليل نهار لإضعاف أثره ومحاصرته من الداخل والخارج.
هل هناك محاولات لإصلاح التعليم في العالم العربي؟
لعلي أطرح بعض الأسئلة:
هل تتجاوب مناهج التعليم لحاجات المجتمع العربي؟
هل تخضع للمراجعة والتنقية دون إملاء خارجي أو ضغط داخلي؟
هل تنسجم المناهج مع مبادئنا؟
هل تصنع تلك المناهج في مختلف الجامعات لتخريج مهندس أو طبيب أو معلم أو صاحب مهنة يجمع بين التحصيل النظري الراسخ المتطور، والتطبيق العملي الذي يُكسبه الملكة ويؤهله لسوق العمل؟
هل تقوم المناهج في الوطن العربي على مخاطبة العقل والعناية بالنقاش الحر، أم أن سياسة التلقين والحفظ هي الغالبة؟
تأملوا قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 185).
حدثني بحسرة أستاذ جامعي في إحدى كليات التربية في دولة خليجية قائلاً: في كل عام نناقش كثيراً من رسائل الماجستير والدكتوراة في تخصص التربية، وتأتي بعض هذه الرسائل بحلول ورؤى وطرح إشكالات وأفكار ومقترحات، غير أن مصيرها أن تزوى في الخزانات مع أخواتها.
سيبقى الفساد السياسي والإداري في بعض البلدان، والضعف في بعضها، عقبة كبرى في طريق الإصلاح في كل مجال ودائرة، لكن ذلك ليس عذراً لمن بيده سلطة في أي مستوى أن يقوم بدوره الرسالي ليصنع الأجيال التي تصنع مستقبلاً مشرقاً للعالم العربي.
رحم الله الإمام أبو الحسن الندوي الذي قال: إن صلاح مصر يعني صلاح العالم العربي، وصلاح العالم العربي يعني صلاح العالم الإسلامي، وصلاح العالم الإسلامي يعني صلاح العالم.
____________________________
المدير العلمي للكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية بألمانيا.