«فَمن شَاهد الْقَتْلَى قَالَ: مَا هُنَاكَ أَسِير، وَمن عاين الأسرى قَالَ: مَا هُنَاكَ قَتِيل، ومذ استولى الفرنج على سَاحل الشَّام مَا شفي للْمُسلمين كَيَوْم حطين غليل»(1).
هكذا يصف المؤرخ أبو شامة معركة «حطين» التي كسَر فيه جند الإسلام بقيادة صلاح الدين الأيوبي جيش الصليبيين، فكانت معركة فاصلة مهدت الطريق لاسترجاع بيت المقدس بعد أن غاب عنه صوت الأذان قرابة قرن من الزمان.
بيد أن استرداد القدس لم يبدأ من هذا التاريخ، ولم يتحقق عبر معركة واحدة، بل جاء بعد طول أمد من الإعداد والتهيئة، ليس في مجال الإعداد العسكري فحسب، لكنها كانت فترة إعداد فكري ومنهجي وتهيئة إصلاحية للأمة بأسرها، وهو ما ينبغي الاهتمام بدراسته على طريق تحرير القدس وإنقاذها من بين الأنياب الصهيونية.
التاريخ يعيد نفسه
تتشابه ظروف العالم الإسلامي اليوم إلى حد بعيد مع الظروف التي مرت بها الأمة قبل تحرير «الأقصى» على يد صلاح الدين.
شهدت هذه الحقبة تنامي قوة الأفكار الباطنية التي تخفي العداوة للإسلام، فكان القرامطة الذين سبق لهم أن اقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وقتلوا الحجيج حتى من تعلق بأستار الكعبة منهم، وكانت جماعة الحشاشين وزعيمهم حسن الصباح ومخططاتهم الإجرامية لضرب أهل السُّنة، والعبيديون الذين احتلوا مصر وقتلوا علماء السُّنة، وغيرهم من الفرق الباطنية.
وفي عصرنا كذلك تعاني الأمة من انتشار المذاهب والأفكار الهدامة، سواء التكفيرية أو الباطنية بميراثها المشؤوم، أو تلك التي وجدت موطئ قدم لها في هذه الآونة، كالأفكار العلمانية التي تنادي بإقصاء الدين عن شؤون الحياة، أو دعاوى التنوير التي ترمي إلى تقويض الدين وتفريغه من محتواه، وضرب السُّنة بالتشكيك في صحيحي البخاري، ومسلم، وإخضاع القرآن للنقد، والقائمة طويلة.
وخلال حقبة ما قبل تحرير القدس على يد صلاح الدين، كان تشرذم الأمة، والنزاعات الطاحنة بين حكامها، وفقدان روح أمة الجسد الواحد، وهو الأمر نفسه الذي تعيشه أمتنا اليوم، فنبذت الأمة الراية الإسلامية الجامعة، وانضوت تحت راية القومية، فخسرت بذلك جهود الدول الإسلامية غير العربية، ثم تنكرت لراية العروبة وعاشت أسيرة القُطرية، فأصبح كل قُطر من أقطارها منشغلاً بحاله وشؤونه، فبدت نعرات الشوفينية، والتعالي، وأصبحت لغة المصالح هي السائدة، ولو على حساب الرابطة الدينية.
التحرير.. بين الأمس واليوم
وبيت القصيد، هو التعرف على مناخ التهيئة والإعداد فترة ما قبل تحرير القدس، للاستفادة منها كأولى الخطوات على طريق استعادة «الأقصى»، وتلك هي فائدة قراءة التاريخ، أن تلتمس من الماضي العبر لتصحيح الواقع، ولذا يقول ابن خلدون: «فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا»(2).
أولاً: مركزية القدس:
فالقدس كانت قضية مركزية للأمة رغم الضعف الذي دب في أوصالها، وليس أدل على ذلك من أن السلطان نور الدين محمود زنكي، سلطان الشام وأستاذ صلاح الدين، كان هم تحرير «الأقصى» يشكل رؤيته المستقبلية، لدرجة أنه بنى منبراً لـ«الأقصى» الأسير، وفي ذلك يقول ابن شداد: «وكان نور الدين محمود بن زنكي قد عمل منبراً بحلب تعب عليه مدة، وقال هذا لأجل القدس، فأرسل السلطان (أي صلاح الدين بعد الفتح) من أحضر المنبر من حلب وجعله في المسجد الأقصى»(3).
الأمر ذاته كان شأن السلطان صلاح الدين، فقد عرف عنه فرط اهتمامه بتحرير «الأقصى» إلى درجة القول بأنه لم يكن يبتسم بسبب محنة «الأقصى»، ويقول عنه القاضي شداد: «وكان رحمه الله عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال»(4).
إنه مما ابتليت به الأمة مؤخراً، اعتبار كثير من المسلمين «الأقصى» مسألة فلسطينية، وشأناً داخلياً فلسطينياً، ويتم الترويج بقوة لضرورة الانصياع للأمر الواقع الذي فرضته حكومة الاحتلال وداعموها، وضرورة الرضا بالتطبيع مع الكيان المحتل، ففقدت قضية القدس مركزيتها إلى حد بعيد، ولن يتم تحرير «الأقصى» إلا إذا عادت هذه المركزية في نفوس المسلمين؛ حكاماً ومحكومين، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأسلمة القضية الفلسطينية.
ثانيًا: وحدة الأمة:
وهو ما عمل عليه نور الدين ثم صلاح الدين، فالأول قد استغل فرصة أن استجار به وزير العبيديين في مصر شاور السعدي لإعادته إلى الوزارة المسلوبة منه، فتدخل لإرجاعه ليوطئ أقدامه في مصر ليتسنى له تحقيق وحدة مصرية شامية، ثم بعد ذلك أرسل قائده أسد الدين شيركوه إلى مصر خوفاً من استيلاء الصليبيين عليها، ثم صارت له الوزارة عليها بعد التخلص من شاور.
وبعد ذلك خلفه صلاح الدين على الوزارة، إلى أن قضى على دولة العبيديين، وأصبح الطريق إلى وحدة الشام ومصر ممهدًا، وفي ذلك يقول د. محمد العبدة: «كان إرجاع مصر للسُّنة، وتوحيدها مع بلاد الشام من خطوات الجهاد المباركة التي بدأها نور الدين، وأكمل هذه الخطوات صلاح الدين»(5).
وأعلم أن جملة «وحدة الأمة» هنا، توهم بالمثالية الزائدة، لكنها حقيقة لا مفر منها، ولن تتأتى بين عشية وضحاها، لكن على الأقل يتم تحديد مسارات متاحة لتحقيق وحدة جزئية، عن طريق التركيز على المشتركات، وأرى أن دور الجماهير في تحقيق ذلك هو الأقوى، فإن التفافهم حول مفهوم الانتماء للأمة والتعامل بشعور أمة الجسد الواحد ممكن ومتاح.
وحري بكل من يحمل هم القضية أن يعمل على تعزيز الألفة والائتلاف بين المسلمين، سواء عن طريق الجهد الفردي أو العمل المؤسسي.
ثالثاً: النهوض بالشباب:
فلئن كان تحرير القدس مرتبطاً بصلاح الدين، ونور الدين محمود زنكي، فإن هناك جندياً مجهولاً في تحقيق هذا الإنجاز، وهو الوزير السلجوقي أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، المعروف بـ«نظام الملك».
كانت إليه التدابير الفعلية لشؤون البلاد، وتوجهت إليه آمال الأمة، وأيده علماؤها، ولعل من أبرزهم الإمام الجويني، الذي صنف كتابه «الغياثي» متوجهًا به إلى نظام الملك.
أهم ما ارتكز عليه المشروع الإحيائي لنظام الملك، الاهتمام بالناشئة، عبر إنشاء المدارس النظامية، التي مثلت قوام نهضة علمية، جعلت هذا الوزير في مصاف رموز التجديد الحضاري، وهو بذلك قد حوّل التعليم من مؤسسات أهلية إلى مؤسسات حكومية ترعاها الدولة وتوقف عليها الأوقاف وتضع لها هيئات التدريس والمناهج الموحدة المعتمدة.
استطاع الرجل أن يحدث تغييراً في هذا الجيل، بنى عليه نور الدين، وصلاح الدين مشروعهما لتحرير «الأقصى»، فلا غنى عن الاهتمام بالشباب، وتوعيتهم، وتربيتهم على منهج أهل السُّنة، وهذا بدوره يغرس فيهم أهمية «الأقصى» والمقدسات بشكل عام، وتلك أبرز طرق استعادة «الأقصى» إلى أحضان المسلمين مرة أخرى.
_________________________
(1) الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبو شامة، (3/ 284).
(2) تاريخ ابن خلدون، (1/13).
(3) النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، ابن شداد، وتاريخ أبي الفداء، (2/316).
(4) النوادر السلطانية، ص322.
(5) أيعيد التاريخ نفسه، محمد العبدة، ص116.