المناهج العربية تفتقد للوحدة، أو البناء الواحد الذي يعكس وحدة الأمة، ولذلك كثيرًا ما تتعارض المناهج التعليمية بين الدول العربية، ونلجأ إلى المعادلات التعليمية عند انتقال الطالب من بلد إلى آخر، إضافة إلى أن هذه المناهج تعتمد على البناء النظري بشكل رئيسي أكثر من البناء العلمي الذي ينقل مجتمعاتنا إلى مصاف الدول الناهضة، والتي تأخذ بأسباب العلم والتقدم إضافة إلى الحفاظ على ثوابتها الدينية والقيمية والتراثية والأخلاقية.
وكثيرة هي المشاكل التي تواجه المناهج الدراسية في الوطن العربي، وتتسبب في انفصالها عن المستهدف الذي يقتضي أن تخدم هذه المناهج مسائل وحدة الوطن والارتقاء الأخلاقي والقيمي، وتأكيد الثوابت الدينية، والانخراط في مواكب التقدم والحداثة، وكل هذه المشاكل تعاني منها الدول العربية بشكل أو بآخر.
ومن المشاكل التي تواجه المناهج الدراسية في السودان هي كثرة تعديلات النظم التعليمة منذ الاستقلال وحتى الآن، حيث خضعت المناهج للتغير وفقا لتغيير النظم السياسية التي تعاقبت على البلاد، فقد قام الرئيس الراحل محمد جعفر النميري بمحاولات لتغيير المناهج والنظم التعليمية بعد قيامه بثورته عام 1969، للتخديم على توجهه السياسي الاشتراكي في ذلك الوقت، ثم جاء نظام البشير ليقوم بتعديل آخر للمناهج الدراسية في 1992، وكان المبرر هو تنقية المناهج من الأشكال العلمانية ومحاولة ربطها بالنظام الإسلامي، واستند نظام البشير على مؤتمر السياسات التربوية الذي عقد في العام 1990، واستهدف أن يكون الدين هو المحور والهدف الأساسي للتعليم في البلاد.
وعقب قيام الثورة على البشير وإسقاطه في أبريل 2019 جاء النظام الجديد أيضًا لتغيير مناهج التعليم حتى تتوافق مع رؤيته السياسية، التي تختلف بدورها عن النظام الإسلامي الذي كان قائمًا طوال فترة البشير (1989 ـ 2019)، وهي بدورها كانت تستهدف الانطلاق من رؤية إفريقية بالأساس، وعلمانية عالمية بشكل عام، وهكذا يبدو أن السياسة كانت طوال الوقت هي المحرك الأساسي لتغيير المناهج وليس الربط بالنظم العلمية الحديثة.
الهوية ومناهج التعليم:
لا شك أن غياب الاتفاق المجتمعي، ونخبه، على اتفاق محدد حول هوية السودان، وتنازعها بين هوية إسلامية، وعربية، وإفريقية، قد أثر بشكل واضع على المناهج الدراسية في السودان، خاصة في الفترة التي سبقت حكم البشير، والتي سبقت أيضًا انفصال دولة الجنوب في السودان، حيث كان هناك موروثًا ثقافيًا لا دينيا يتمثل في إيمان بعض القبائل في الجنوب بالمعتقدات الروحية كعبادة التمساح، والأسد، والشمس، والبرق، وغيرها من المعتقدات التي تنازعت مع بقية الهويات الدينية والعرقية والثقافية في جغرافيا السودان الممتدة والمترامية الأطراف.
وعلى الرغم من المحاولات المكثفة والجادة التي بذلها نظام البشير في إيجاد صيغة توافقية لتحديد هوية السودان مثل تعريفه بأنه عربي إفريقي، أو إفريقي عربي، إلا أن كافة المحاولات اتضح فيما بعد أنها لم تنجح في تجذير هوية محددة للمجتمع السوداني، وبالتالي غابت مناهج التعليم عن التأثير بشكل موحد على كل المنتج الطلابي في كافة أنحاء السودان، وتعد هذه هي المشكلة الأكبر التي تواجه مناهج التعليم في السودان؛ لأنه على أساسها يمكن أن تحل مشاكل كثيرة من أزمات السودان، وخاصة حروبه الأهلية التي انطلقت وتنطلق على أسس ثقافية فشلت مناهج التعليم في توحيدها.
وقد أنتجت المناهج الدراسية المتعددة والتي تدخلت فيها الأيدولوجيا السياسية شعورًا بالظلم والاضطهاد عند بعض القبائل في أطراف السودان شرقًا، وغربًا، وجنوبًا، حيث كان ومازال مصطلح التهميش الأكثر تداولًا بين الطلاب والخريجين، ومن ثم قادة التمرد في تلك المناطق، إضافة إلى مصطلح العنصرية الذي تم تسويقه مع التهميش بين أطراف المجتمع الدولي المتربص بالسودان مما ساعد بشكل أساسي في تغذية الحروب الأهلية واستمرارها على أساس ثقافي، فشلت مناهج التعليم في إزالته، أو تقديم بديل تتوحد خلفه الثقافة والهوية والمنتج التعليمي لتلك المناهج.
مشاكل المناهج الدراسية:
وقد شهدت فترة حكم رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، بعد إسقاط البشير في أبريل 2019، وحتى الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 حالة من الجدل الكبير بين النخب السودانية لتغيير المناهج التعليمية، حيث قررت حكومة حمدوك تعديل المناهج لتقليل الجرعات الدينية الخاصة بتدريس القرآن والعلوم الدينية، والدفع في اتجاه تشكيل مناهج جديدة تراعي وفقًا للرؤية التي قدمها وزير التربية والتعليم في ذلك الوقت محمد الأمين التوم، التنوع الثقافي والإثني في المجتمع، ورفع هؤلاء شعار “أنسنة التعليم”، أي الذهاب إلى مناهج ذات طبيعة إنسانية وليست أيدولوجية، ولكن حراكًا شعبيًا وثقافيًا واجه هذا التحرك، وعلى أثر ذلك شكل حمدوك لجنة عليا لتطوير المناهج، لم تنجح في وضع تصور جديد للمناهج التعليمية في السودان، خاصة بعد إسقاط حمدوك على يد الفريق أول عبدالفتاح البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021.
وأرجع الدكتور عمر القراي، المدير السابق للمركز القومي للمناهج والبحث التربوي، تدمير العملية التعليمة إلى تخلف المناهج عن مهارات التعليم في القرن الحادي والعشرين، والذي يتطلب من وجهة نظره تعليم الأطفال التفكير النقدي والإبداع والمبادرة والمشاركة والقيادة للتواصل مع التطور التكنولوجي، مطالبًا بتغيير المناهج لتتحول إلى مناهج تفاعلية بدلًا من كونها تعتمد على التلقين، وأن تراعي التعدد الديني والإثني في المجتمع.
ومن المآخذ على المناهج التعليمية التي تدرس الآن لمستويات التعليم المختلفة عدم الأخذ في الاعتبار فوارق اللغة بين مكونات المجتمع السوداني، التي لا تجيد أطرافًا منها اللغة العربية مثل بعض الإثنيات في ولاية النيل الأزرق، وجبال النوبة، وهي التي تجد صعوبة بالغة في فهم المناهج العربية الفصحى مما جعل الكثير من الطلاب ينصرفون عن المدرسة إلى مدارس كنائس التبشير المنتشرة هناك، وهي إشكالية تسببت في ترسيخ مفاهيم مختلفة وثقافات مختلفة داخل المجتمع الواحد.
ووفقًا لآراء متخصصين، فإن تعليم العربية المبسط لتلك المجموعات هو الطريق الوحيد لإعادة دمجها داخل المجتمع بدلا من تقديم مناهج عربية متخصصة يصعب على غير الناطقين بها فهما.
ووفقًا لمتابعة دقيقة لما صدر عن مؤتمرات تطوير التعليم في السودان، عشرات البحوث التي قدمها خبراء متخصصون في هذا المجال، يمكننا الإشارة إلى مطالب هؤلاء المتخصصون في تطوير المناهج في الآتي:
- إقامة مركز بحثي لتطوير التعليم وفقًا لمقتضيات العصر.
- مراجعة نظم الامتحانات ومطابقتها بالنظم العالمية.
- ربط المناهج بالواقع المجتمعي متعدد الثقافات والأديان.
- تعليم اللغة الإنجليزية من الصف الأول لتمكين الطلاب من الاستفادة من المواد الإنجليزية عبر الإنترنت.
- إدخال أساليب تعليمية تسعى لتطوير مهارات البحث والاستكشاف لدى الطلاب.
- تحديث المواد العلمية المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها الحديثة التي تفتقر لها المناهج الحالية.
- إدخال التقنيات الحديثة كعوامل مساعدة للمناهج في الربط بالتطبيقات الإلكترونية.
- اعتبار تدريس اللغة العربية والعلوم الدينية جزء أساسي من تشكيل الهوية السودانية، وتثيبت القيم والمبادئ الإسلامية كحائط صد أمام الهجمات الثقافية الغربية.