أنظر إلى الخريطة.. خريطة فلسطين وأتأمل تضاريسها من النهر إلى البحر، فلا أراها منذ فجر المحنة إلا مصنعاً فريداً للبطولات، ومزرعة مدهشة للشهداء.. لا يتوقف نماؤها.. ولا تنقطع ثمارها، ولا يغيب ظلها الوارف طوال العام.. شعب يبيت ويصحو على وقع المقاومة.. نهاره وليله شهادة وشهداء.. وقد ارتضى أن تكون تلك حياته حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.. وأن يمضي في الطريق دون أن يلتفت إلى خارج حدوده بعد أن أدار الشقيق والقريب له ظهره.. جبناً.. أو مللاً.. أو يأساً.. أو انبطاحاً وعمالة! وهكذا يختلط الدمع بالدم.. والمقاومة والصمود على أرض غزة الصامدة، وتمتزج صرخات الألم بصيحات التكبير.. وتتلاقى زخات المدافع من فوق الأرض بضربات الصواريخ من أعلى، وسط مداهمات وتدمير وتجريف وتشريد إلى عالم الشتات.. وتواجهها مقاومة قل نظيرها في التاريخ.. أبدعت كل صنوف المقاومة وصنعت صواريخها ودروعها ومدفعيتها وخنادقها وأنفاقها بجهد ذاتي نال إعجاب العالم وأصاب العدو بالرعب والذهول، شلال الدم أصبح موجاً متلاطماً، وبركان الدمع يقذف بحممه، وصرخات الألم والحزن والغضب والإصرار صارت نشيداً يومياً، تنعى الشهيد الحبيب، وتبكي البيت المفقود، وتعلن قسم الإصرار على استرداد الأرض، وتطهير الوطن من دنس الصهاينة.
ذلك هو المشهد اليومي الذي نتابعه كل ساعة على أرض غزة بل وأرض فلسطين، وقد جسدته الأم الصابرة والزوجة المحتسبة والابنة الثائرة وهي تحتضن رأس أمها.. أبيها.. زوجها.. أختها.. أخيها.. الشهيد، وقطرات دمعها تتساقط مختلطة بدمائه الزكية.. لقد قتلوهم جميعاً بدم بارد أمام أعينها، وتركوهم ينزفون حتى الموت.. فيزداد انهمار دمعها حتى جفت مآقيها.. وذلك كل ما تملكه نساء فلسطين.. لكن سرعان ما تتحول تلك المآقي إلى قواعد صاروخية.. وتبة لإطلاق المدفعية.. فتحيل أفراح العدو إلى أحزان ونشوة النصر إلى رعب وتفتح أبواب الأمل نحو فجر جديد ونصر مظفر.
أما نحن الشعوب المقهورة.. ننتفض يوماً فنقابل بالقمع.. ونحاول مد يد العون بكسرة خبز أو قارورة دواء فتمتد ألف يد ويد بالقيد والسلاسل لتحول دون ذلك، وصارت كل علاقتنا بفلسطين متابعة المشهد الدامي حتى أرهقت الأنظار من ملاحقة الأحداث، وأصيبت الرؤوس بالدوار، وأترعت النفس جزعاً وعجزاً.
لكن شعب فلسطين ومعه كل المكافحين الشرفاء من أبناء الأمة العربية والإسلامية ومن حوله كل أحرار العالم.. هذا الشعب.. شعب الجبارين لم يرهق ولم يجزع ولم تخر قواه، بل يزداد صبراً وقوة وانطلاقاً.. وحباً للشهادة.. إنه اصطفاء الله لشعب ينوب عن أمة بأكملها في معركة الحق ضد الباطل.. بين الإسلام ويهود الزور والبهتان؛ (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21)، (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، يَوْمَ لَا يَنفَعُ ٱلظَّٰالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوٓءُ ٱلدَّارِ) (غافر: 51- 52).
_______________________
(*) مدير تحرير «المجتمع» الكويتية و«الشعب» المصرية– سابقاً.