يقف الإنسان خاشعاً أمام جلال الموت، فكيف إن كان الموت شهادة في سبيل الله؟! وكيف إن كانت الشهادة من أجل تحرير «الأقصى» وفلسطين، أقدس مقدسات المسلمين؟! وكيف إن كانت الشهادة أمنية ينتظرها صاحبها بفارغ الصبر؟!
أمام الجثمان المسجى والجسد المكلوم المصاب يقف المرء متأملاً في تلك الروح المؤمنة التي عاشت في سبيل الله، وفهمت دورها في هذه الحياة، وبذلت ما تستطيع وما تملك للقيام بهذا الواجب العظيم، ولم تتوقف عند ذلك، بل كانت تأمل في أن تموت على ما عاشت عليه، فكانت تأمل بالموت في سبيل كما عاشت في سبيل الله.
إنه الشيخ صالح محمد سليمان العاروري (أبو محمد)، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، رحمه الله تعالى، وتقبله في الشهداء.
يحار اللسان والقلم عند الحديث عن لحظة استشهاد ابن قرية العارورة في الضفة الغربية في فلسطين، عن ذلك الرجل الذي عاش حياته مجاهداً في سبيل الله تعالى، يتنقل بين العمل الفدائي المقاوم إلى سجون الاحتلال إلى منافي الأرض ودول العالم يطلب الشهادة في سبيل الله من أجل تحرير «الأقصى» وفلسطين.
على نبض الأرض وعبق التاريخ وألم الواقع القريب تشكلت شخصية هذا الشاب المؤمن الذي درس الشريعة الإسلامية، فكان صادقاً مع نفسه ومعها، ليبدأ الكفاح والعمل، متسلحاً بالصدق والأمل.
كان قائداً عملياً عظيماً، نائباً لرئيس المكتب السياسي، ومرشحاً لرئاسته، ولكن هذه المواقع الكبيرة والأسماء الرنانة في فصيل مقاوم لا تعطي الأمان ولا توفر الاطمئنان، بل تكون غالباً خطراً على حياة صاحبها، وأي خطر!
حين تطالع آخر الكلمات والتصريحات التي صدرت عن الشهيد في آخر أيام حياته تعجب! حقاً أهو هو؟! لقد صدق الله فصدقه الله، ولا نزكي على الله أحداً، يقول رحمه الله: «أنا عمري ما توقعت أن أبلغ هذا العمر أصلاً، نحن مؤمنون ونعتبر أن الشهادة ولقاء الله هو الفوز العظيم الذي نتمنى أن تختم لنا به الحياة»، بعد كل هذه الدعوة والجهاد والحركة والعطاء يا أبا محمد تتمنى أن تختم لك الحياة بالشهادة؟! ماذا يتمنى أهل الفُرُش؟! كانت والدته تحدث عنه وهي تزفه شهيداً سعيداً بإذن الله: «كان ينتظر الشهادة ويستطولها، ويقول: استشهد كل أصحابي وأنا بقيت خلفهم، كان يحب الشهادة كثيراً، والحمد لله أنه نالها»، ونال العاروري فعلاً ما تمنى، ولقي الله على ما يحب بإذن الله تعالى.
يا أم الشهيد، حدثينا عن ذلك البطل الهمام الذي كان من خيرة جند «القسام»، حتى جاء هذا الختام، على أحسن ما يُطلب ويُرام، حدثينا عن تلك المعاني العميقة التي جعلت المجاهد الشهيد في ذلك المقام السعيد بإذن الله تعالى.
لم يكن ختام الشهيد العاروري استثنائياً في حياته، بل كان النتيجة المتوقعة لشاب نشأ في طاعة الله، وعرف أن الطريق الموصلة إليه هو الجهاد في سبيله، فعاش داعية ومجاهداً وقائداً في الطريق إلى الله، فكان الختام خير تتويج لتلك الحياة.
هذا هو طريق الجهاد، طريق عظيم يستثمر فيه المسلم طاقاته في سبيل الله ويستفرغ جهده ووسعه طلباً لرضاه، لأنه أعظم استثمار مع الله، ولا تكون نهايته إلا بإحدى الحسنيين؛ إما نصر وإما شهادة، نصر يعز الله به الإسلام وأهله، ويأمن الناس به على دينهم وأرضهم وخيرات بلادهم، ويكون جائزة ثباتهم وصبرهم، أو شهادة ينال بها المسلم أعظم أجر وأشرف كرامة، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بعطاء الله لهم، أرواحهم في جوف طير خضر تسرح في الجنة، تأكل من ثمرها وتشرب من مائها، وتأوي إلى بيوت هي قناديل معلقة في عرش الرحمن، يستبشرون بنعمة الله وفضل، ويستبشرون بإخوانهم من المجاهدين والمؤمنين الذين أعد الله لهم أعظم كرامة في دار الكرامة، كان رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم يقول: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ، ثُمَّ أَغْزُوَ فَأُقْتَلَ» (رواه مسلم)، فأي كرامة لعمل بعد سؤال المعصوم عليه الصلاة والسلام!
ذهب الشهيد الشيخ صالح إلى ربه، وخط بدمائه الزكية تباشير النصر القادم القريب بإذن الله، شاهداً على أن هذه الروح غالية لا تُعطَى إلا لخالقها، الذي يعطي على هذا العمل والفداء أعظم الجزاء وأوفر العطاء؛ (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).
يا أبا محمد، هنيئاً لك ذلك الختام الذي أحببت، وأسأل الله أن يكون ما قدمت من عرق ومداد ودمع ودم في ميزان حسناتك يوم القيامة، وأن يجعل من استشهادك سبباً لحياة أمتك ووقوداً للنصر القادم الموعود بإذن الله.