وجدت قلمي ملقى على الأرض، تناثرت أشياء كثيرة، تساقطت أوراق الأشجار، كان الخريف قاسياً، لص يحاول سرقة البيت الكبير، لا فرق بينهما، هذا يحرق غزة مثله؛ أعود باحثاً عن دفتر أيامي، تلك ممحاتي وهذه صورة محاطة بشريط أسود علامة الحداد، هرعت إلى قناة الأخبار، أخاف من الأنباء العاجلة، أراه يلملم بقايا حمزة، أهو ابن عبدالمطلب؟
أخط بعضاً من سرد أليم، وهل يغني بكاء؟
تهرب الحروف، تختلط المفردات فتصاب الجمل بالحيرة، كأنهم وحدهم يمسكون بمفاتيح المدينة العتيقة، ثلاثون ألفاً وما تزال السنابل تحت مجنزرة القتلة، أي عالم هذا الذي فقد صوابه؟!
يقهقه حيي بن أخطب مرتدياً وجه أفيخاي، في كل لحظة يقذفون بحمم من النار، لم تعد العصافير تطير، ذبلت الحياة في بلاد الزعتر والياسمين.
تسقط دموعي، يحتضن حمزة، بواكيه كثر، يا للفاجعة أي رجل هو؟!
تناقلت الناس أن جبل «أُحد» صار هنا؛ رجالاً وصغاراً وأمهات.
تساندت على الجدار، دارت بي الأرض، إنهم يريدون وطناً، خيمة، في تلك البلاد الحياة باللون الأحمر.
«إنه نوع من الرجال ينبت فجأة أمامك، فإذا بك غير قادر على نسيانه، وبدل أن يتجه مثل كل الناس إلى الأشياء، تتجه إليه الأشياء من تلقائها».
يمتلك صوت الحقيقة، ذلك الجرو يتوعد الأسود، حاولت جاهداً أن أمسك بقلمي، سحت عيناي بالدمع، يثملون حين تقرع النواقيس في عوالم تنتشي بالقتل.
يخبرني أن جده أبا الدحداح نذر نخيله لله، أما هو فقدم حمزة وكل أهله لرب البيت، مشاعل ذبالتها أقلام وأصوات وصور وألوان، يهدني الألم، آوي إلى فراشي، يهرب النوم، يزورني طيفه، يقبل أباه، يناديه: سبقتك يا أبي، فالجنة مع الأحبة تحلو!
وكم من جنان فساح لأبي الدحداح!
ارتوت الأرض ببذور الرياحين، تنبت الحقول رجالاً، يتجاوب صدى قصيدة نزار: يا أطفال غزة علمونا!
لكنهم يا نزار لم يكفروا بالأفلام والدفاتر، يرسمون لوحة أكثر واقعية، إنه رسم بلون الحقيقة، في اليوم التالي ستعود أزهار الربيع، ليتهم يدعون الطيور تغني.
يقول: لا تصالح!
زمن الهوان، أتذكر معلمي في حصة التاريخ حكى لي عن ضياع الأندلس، عن أبي عبدالله الصغير، يوم بكى كالنساء، عن حروب الإخوة الأعداء، كم جلب الحقد!
هل يحيي المسيح القتلى؟
مضى زمن الأنبياء.
في تلك البلاد يتناسل أحفاد الصحابة، امح دمعتي، لا يليق بالرجل أن يبكي في زمن الإباء، أتذكر أبي كان يكره المذلة، يعاند الموت، يحب الحياة.
يجري الهر عارياً، يتقافز قرداً، تقذفه شيرين بالحجارة، تدق عقارب الساعة معلنة منتصف الليل، يصلي لربه، صامداً فالجبل لا تهزه الريح، ألم أقل لكم إنه الدحدوح!
تقزمت كل تلك الأبواق، لم تعد العصافير تأوي إلى قصور تسكنها الغربان، فيما مضى كانت الخنساء تندب صخراً، وها أنت يا دحدوح تنشد نصراً، هكذا كتبت فتاة على لافتة في عاصمة النور، فمدننا أصابها الخرس إلا من مهرجانات الترف!