الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد، فإن أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده هي نعمة الإسلام، والهداية لاتباع شريعة خير الأنام، وذلك لما تضمنته هذه الشريعة من الخير والسعادة في الدنيا، والفوز والفلاح والنجاة يوم القيامة لمن تمسك بها وسار على نهجها القويم.
ولقد جاء الإسلام بالمحافظة على كرامة المرأة وصيانتها، ووضعها في المقام اللائق بها وحث على إبعادها عما يشينها أو يخدش كرامتها؛ لذلك حرم عليها الخلوة بالأجنبي، ونهاها عن السفر بدون محرم، ونهاها عن التبرج الذي ذم الله به الجاهلية؛ لكونه من أسباب الفتنة بالنساء وظهور الفواحش، كما قال عز وجل: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 33)، والتبرج إظهار المحاسن والمفاتن.
ونهاها عن الاختلاط بالرجال الأجانب عنها، والخضوع بالقول عند مخاطبتهم؛ حسما لأسباب الفتنة والطمع في فعل الفاحشة، كما في قوله سبحانه: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) (الأحزاب: 32)، والمرض هنا هو مرض الشهوة.
كما أمرها بالحشمة في لباسها وفرض عليها الحجاب؛ لما في ذلك من الصيانة لهن، وطهارة قلوب الجميع، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب: 59)، وقال سبحانه: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) (الأحزاب: 53)، وقد امتثلن رضي الله عنهن لأمر الله ورسوله فبادرن إلى الحجاب والتستر عن الرجال الأجانب، فقد روى أبو داود بسند حسن عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «لما نزلت هذه الآية خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية، وعليهن أكسية سود يلبسنها»، وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله ﷺ فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه»، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي أكمل النساء ديناً وعلماً وخلقاً وأدباً، قال في حقها المصطفى ﷺ: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»، والثريد هو اللحم والخبز.
وقد ثبت أن النبي ﷺ لما أمر بإخراج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال النبي ﷺ: «لتلبسها أختها من جلبابها» (رواه البخاري ومسلم)، فيؤخذ من هذا الحديث أن المعتاد عند نساء الصحابة ألا تخرج المرأة إلا بجلباب، فلم يأذن لهن رسول الله ﷺ بالخروج بغير جلباب درءاً للفتنة، وحماية لهن من أسباب الفساد، وتطهيراً لقلوب الجميع، مع أنهن يعشن في خير القرون، ورجاله ونساؤه من أهل الإيمان من أبعد الناس عن التهم والريب.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ﷺ يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس»؛ فدل هذا الحديث على أن الحجاب والتستر كان من عادة نساء الصحابة، الذين هم خير القرون وأكرمها على الله عز وجل، وأعلاها أخلاقاً وآداباً، وأكملها إيماناً وأصلحها عملاً، فهم القدوة الصالحة في سلوكهم وأعمالهم لغيرهم ممن يأتي بعدهم.
إذا علم هذا تبين أن ما يفعله بعض نساء هذا الزمان من التبرج بالزينة والتساهل في أمر الحجاب، وإبراز محاسنهن للأجانب، وخروجهن للأسواق متجملات متعطرات، أمر مخالف للأدلة الشرعية ولما عليه السلف الصالح، وأنه منكر يجب على ولاة الأمر من الأمراء والعلماء ورجال الحسبة تغييره وعدم إقراره، كل على حسب طاقته ومقدرته، وما يملكه من الوسائل والأسباب التي تؤدي إلى منع هذا المنكر، وحمل النساء على التحجب والتستر، وأن يلبسن لباس الحشمة والوقار، وألا يزاحمن الرجال في الأسواق.
ومن الأمور المنكرة التي استحدثها الناس في هذا الزمان، وضع منصة للعروس بين النساء، يجلس إليها زوجها بحضرة النساء السافرات المتبرجات، وربما حضر معه غيره من أقاربه أو أقاربها من الرجال، ولا يخفى على ذوي الفطر السليمة والغيرة الدينية ما في هذا العمل من الفساد الكبير وتمكن الرجال الأجانب من مشاهدة النساء الفاتنات المتبرجات، وما يترتب على ذلك من العواقب الوخيمة، فالواجب منع ذلك والقضاء عليه؛ حسماً لأسباب الفتنة وصيانة للمجتمعات النسائية مما يخالف الشرع المطهر.
وإني أنصح جميع إخواني المسلمين في هذه البلاد وغيرها بأن يتقوا الله ويلتزموا شرعه في كل شيء، وأن يحذروا كل ما حرم الله عليهم، وأن يبتعدوا عن أسباب الشر والفساد في الأعراس وغيرها؛ التماساً لرضا الله سبحانه وتعالى، وتجنباً لأسباب سخطه وعقابه.
وأسأل الله الكريم أن يمن علينا وعلى جميع المسلمين باتباع كتابه الكريم، والتمسك بهدي نبيه ﷺ، وأن يعصمنا من مضلات الفتن واتباع شهوات النفوس، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه خير مسؤول، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
_______________________
مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز.