أورد ابن سعد في «الطبقات الكبرى» أنه في مَسَاءَ لَيْلَةِ الثُّلاثَاءِ لِثَمَانٍ بَقِينَ مِنْ جُمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَلاثَ عَشْرَةَ من الهجرة تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، فَاسْتَقْبَلَ عُمَرُ خِلافَته في ذلك اليوم.
ولما ولي الخلافة، صعد المنبر وهمّ أن يجلس مكان أبي بكر، فقال: ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر، فنزل درجة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: اقرؤوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف.
ثم قال: اللهم إني شديد فليِّنِّي، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخِّني، إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد صاحبيّ، فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن أهل يعني الكفاية والأمانة، والله لئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلنّ بهم.
وبعد يومين من استخلافه تحدث الناس فيما كانوا يخافون من شدته، وبطشه، وأدرك عمر أنه لا بد من تجليه الأمر بنفسه، فصعد المنبر وخطبهم فذكر بعض شأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته، وكيف أنهما توفيا وهما عنه راضيان، ثم قال: قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي، ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خدّه على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق.
وإني بعد شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف، ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها؛ لكم عليّ أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسُدّ ثغوركم، ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أجمّركم (أي لا أبقيكم على جبهات القتال بعيداً عن أهليكم مدة طويلة) في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاَّني الله من أمركم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم(1).
وإن الناظر بعين التدبر في هذه الخطبة يجد أنها ترسي دعائم السياسة التي يسير عليها الخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التعامل مع الرعية، وهي تتمثل في أمور، منها:
أولاً: التواضع:
فقد أكد تواضعه حين نزل درجة عن مقام سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال: «ما كان الله ليراني أرى نفسي أهلاً لمجلس أبي بكر».
ثانياً: إعلان المرجعية العليا للمجتمع المسلم:
ويظهر هذا في حديثه عن القرآن الكريم ولفت النظر إلى قراءته والعمل به، حيث قال: «اقرؤوا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزيَّنوا للعرض الأكبر يوم تعرضون على الله لا تخفى منكم خافية، إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله».
ثالثاً: الجمع بين الجانب السياسي والإداري والوعظي:
وهذه رسالة الدولة المسلمة ألا تفرق بين الدين والسياسة والإدارة، بل ترى أن الإسلام يشمل جميع جوانب الحياة.
رابعاً: الحرص على تحمل المسؤولية بالمعروف وأداء الحقوق لأهلها:
يظهر ذلك في وضع نفسه كعائل لليتيم وراع لأسر المجاهدين والرعية أجمعين، وقد أعلن عن هذا بقوله: «ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف»، وقوله: «ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى وأسُدّ ثغوركم، ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك ولا أبقيكم على جبهات القتال بعيداً عن أهليكم مدة طويلة، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، ولكم عليّ ألا ألقيكم في المهالك».
كما تعهد بأداء الحقوق المالية للرعية، وذلك بما تشتمل عليه من خراج وفيء، لا يحتجن منه شيئاً ولا يضعه في غير محله، بل سيزيد عطاياهم وأرزاقهم باستمرار الجهاد والغزو والحض على العمل وضبط الأداء المالي للدولة المسلمة.
خامساً: التأكيد على أن الخلافة ابتلاء وليست مطمعاً أو غنيمة:
يظهر هذا في قوله: «إن الله ابتلاكم بي وابتلاني بكم بعد صاحبيّ، اللهم إني شديد فليِّنِّي، وإني ضعيف فقوني، وإني بخيل فسخِّني»؛ يعني اجعلني من الأسخياء.
سادساً: إعلان معايير العمل الوظيفي في الدولة:
أكد أنه يباشر من الأعمال ما يستطيع باعتباره حاكم المسلمين، وما لا يسع وقته وجهده له يختار له الأكفاء الأمناء، ويراقبهم، فإن أحسنوا أحسن إليهم، وإن أساؤوا عاقبهم، وقد أعلن ذلك بقوله: «فوالله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو فيه عن أهل يعني الكفاية والأمانة، والله لئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساؤوا لأنكلنّ بهم».
سابعاً: إعلان معايير النظام المالي:
وذلك من خلال الكشف عن طريقة تحصيل الأموال وإنفاقها، وقد أعلن ذلك بقوله: «ولكم عليّ أيها الناس خصال أذكرها لكم فخذوني بها؛ لكم عليّ ألا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا في وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه».
ثامناً: إعطاء الشدة لأهل الظلم والتعدي واللين لأهل الكفاف والعفاف:
فهو يطمئن الرعية على حقوقهم، حيث يرتدع أهل الظلم والبغي ويأمن أهل العفاف والكفاف، وقد ظهر ذلك في قوله: «قد وليت أموركم أيها الناس، فاعلموا أن تلك الشدة قد أضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي ولست أدع أحداً يظلم أحداً أو يتعدى عليه حتى أضع خدّه على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق. وإني بعد شدتي تلك أضع خدي لأهل العفاف وأهل الكفاف».
تاسعاً: الدفاع عن الأمة ودينها:
وهو حين يفعل ذلك لن يظلم المقاتلين، ولن يحبسهم في الثغور إلى حد لا يطيقونه، وإن غابوا في الجيوش فسيرعى الخليفة وجهازه الإداري أبناءهم وأسرهم.
عاشراً: مطالبة الرعية بأداء واجب النصح لخليفتها:
السمع والطاعة له والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يشيع الرقابة الإسلامية في المجتمع(2)، وقد ظهر هذا في قوله: «أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضاري النصيحة فيما ولاَّني الله من أمركم».
والخلاصة أن السياسة الشرعية للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في التعامل مع الرعية تقوم على ضبط العلاقة مع الله ومع النفس ومع الناس في شتى جوانب الحياة.
___________________________
(1) الطبقات الكبرى، ابن سعد (3/ 275).
(2) فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، د. علي محمد الصلابي، ص 100.