تعد الهجرة النبوية الشريفة حادثاً فاصلاً في تاريخ العالم، حيث أسهمت الهجرة من مكة إلى المدينة في إحداث تغيير حقيقي في مسيرة العالم السياسي آنذاك، ويظهر ذلك في النقاط الآتية:
أولاً: قيام دولة إسلامية لم يعترف بها إلا بعد الهجرة:
لقد بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، وظل يدعو إلى الله تعالى في مكة وما جاورها من البلدان، قال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (الأنعام: 92)، وقال عز وجل: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (الشورى: 7).
وظل المشركون يكذبون دعوته ويناصبونه العداء، بل إنهم حرصوا أن يذيقوا أتباعه سوء العذاب، فضربوهم وعذبوهم وانتقموا من الكثير منهم، حتى يرجعوا عن دينهم، ويكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويعلنوا البراءة من دينه.
وظل الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحال، يدعو الناس في مكة وما حولها سراً وجهراً، أفراداً وجماعات، بل إنه كان يعرض نفسه ودينه على القبائل في موسم الحج، ولم يتوان أهل مكة في إعلان التكذيب به وتحذير الناس منه في تلك المواقف.
لقد ظلت هذه الحال قائمة ما يقارب 13 سنة، عانى فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الألوان المختلفة للتكذيب والتعذيب.
لكن الله تعالى أكرم رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه بأن أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة المنورة، لتكون بداية مرحلة جديدة للدعوة إلى الله تعالى في ظل الدولة الإسلامية التي اعترف بها القاصي والداني، فقد أصبح لهذه الدولة الناشئة أرض وشعب ونظام يقودها من الضلالة إلى الهداية ومن الغواية إلى الرشاد.
ثانياً: إسقاط تولية زعيم المنافقين على المدينة:
هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وأهلها قاب قوسين أو أدنى من تولية زعيم الخزرج عبدالله بن أبي بن سلول زعامة المدينة المنورة، حتى قيل: إنهم قد أعدوا له التاج وهيؤوا له مقعد الزعامة.
ثالثاً: إقرار أهل الكتاب بالولاية السياسية للرسول صلى الله عليه وسلم على المدينة:
حين هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان فيها وحولها قبائل من اليهود، وقد أبرم النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة تلزمهم بالاعتراف بقيادته صلى الله عليه وسلم للمدينة، وتوجب عليهم الدفاع عنها تحت إمرته عليه الصلاة والسلام.
قال ابن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار، وادع فيه اليهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم.
وكان مما اشترطه عليهم أن كل ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا تأكيد على إقرار أهل الكتاب بالولاية السياسية للرسول صلى الله عليه وسلم والاحتكام إليه فيما يخص المدينة من الشأن العام.
رابعاً: ظهور تقويم جديد غير الذي تعارف عليه الناس:
أصبحت الهجرة النبوية بعد وقوعها مرتكزاً للخصوصية الإسلامية في حساب الشهور والسنين، وأصبحت علامة للتأريخ في الدولة الإسلامية، حيث كان المسلمون يتبعون التقويم المعتمِد على الأحداث البارزة آنذاك، على سبيل المثال «عام الفيل» الذي ولد فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم، لكن حدث في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن أرسل إليه سيدنا أبو موسى الأشعري أمير البصرة آنذاك، كتاباً يطلب منه البحث عن طريقةٍ جديدةٍ لاحتساب التقويم وذلك حينما ورد خطاب لأبي موسى الأشعري مؤرَخاً في شهر شعبان دون تحديد السنة، فخاطب الأشعري الخليفة عمر يقول: يا أمير المؤمنين، تأتينا الكتب، وقد أُرِّخ بها في شعبان، ولا ندري أي شعبان هذا، هل هو في السنة الماضية؟ أم في السنة الحالية؟
وهنا جمع الخليفة الصحابة رضوان الله عليهم، وبحثوا في هذا الشأن، فتفاوتت الآراء، فمنهم من اقترح بأن يؤخذ بتاريخ مولد الرسول عليه الصلاة والسلام كبداية للتقويم، وآخر قال: نأخذ بتاريخ وفاته، إلا أن الرأي الأغلب كان الأخذ بهجرته عليه الصلاة والسلام.
وبعد أن استشار الخليفة عمر الصحابيين عثمان بن عفان، وعلياً بن أبي طالب في هذا الرأي وأقراه، تم الاتفاق على اعتبار السنة التي هاجر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي بداية التقويم، واختير الأول من محرّم كبداية للسنة، وذي الحجة نهاية لها، ومن هنا انطلقت السنة الهجرية من هجرة الرسول والتي وافقت عام 622 ميلادي، لتصبح السنة الأولى في التاريخ الهجري.
وهكذا يتبين أن الهجرة النبوية الشريفة قد أسهمت في تحقيق التميز والخصوصية للدولة الإسلامية، بل إنها كانت وسيلة لنشر الدعوة الإسلامية واعتراف المحيطين بها بأهميتها وقدرتها على قيادة الحياة والنهوض بها، رغم الصعوبات والتحديات والمكائد التي كان الأعداء يدبرونها للنيل من هذه الدعوة والصد عنها.