ليس السودان ثالث أكبر بلد أفريقي فحسب، ولكنه أيضاً يمتد فوق منطقة حيوية جيوسياسة وغير مستقرة، وتموضع إستراتيجي وامتداد جغرافي وإنساني وثقافي بين دائرتي 4 و22 شمال خط الاستواء وخطي الطول 22 و38، بمساحة 700 ألف ميل مربع، وتمتد طول حدوده البحرية على ساحل البحر الأحمر إلى حوالي 670 كلم، وتحده دولتان عربيتان و5 دول أفريقية، ومتعمق في شمال أفريقي عروبي مُحادد لمصر وليبيا، وغربي أفريقي ساحلي صحراوي مُحادد لدولتي تشاد وأفريقيا الوسطي، وشرقي مشاطئ للبحر الأحمر ومحادد لدولتي إريتريا وإثيوبيا، مع حدوده الجنوبية الاستوائية المستحدثة المتعمقة نحو الوسط والجنوب الأفريقي مع دولة جنوب السودان لتتحول دولتا كينيا وأوغندا بعد انفصال جنوب السودان من دول جوار إقليمي للسودان، إلى مجاورة لدولة جنوب السودان.
تأثير الحرب السياسي والعسكري والاقتصادي
هذه المميزات والعوامل جعلت من السودان قلب أفريقيا النابض بالتأثير الشامل المباشر وغير المباشر على كل دول القارة الأفريقية، والذاكرة السياسية الأفريقية تشهد بذلك التأثير منذ استقلال السودان عن المملكة المتحدة (بريطانيا) في عام 1956م وحتى تاريخ اليوم الذي يشهد حرباً ضروس.
وما يجري في السودان تداعت له أفريقيا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، ويتردد صداه في عدد من المناطق الأكثر هشاشة في القارة السمراء؛ حيث إن مصير دول منبع النيل والعبور والمصب مصير مشترك مباشرة بدولة العبور الوسطى وملتقى نهري النيل الأزرق والأبيض، كما هو في مصر من تأثير وجودي كدولة مصب تعاني من نقص الماء، وكذلك الأمر لدولة المنبع الحبيسة إثيوبيا بما لها من طموح في استغلال مياه النيل على نحو يؤثر بالفعل حالياً على تدفُّق النهر.
ما يجري بالسودان تداعت له أفريقيا عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ويتردد صداه بدولها
وللسودان حدود مع 7 دول، جميعها تأثرت جراء الحرب السودانية، علماً أن تلك الدول تؤثر مباشرة على دول جوارها البعيد عن السودان، فما يجري في السودان يعبُر الحدود ويلقي بظلاله على كل دول الغرب والساحل والشرق والوسط الأفريقي، بل وصل الأمر لإعادة ترتيب شكل التحالفات الإقليمية والنفوذ الدولي المهيمن على أفريقيا، بالحضور البارز للمحور الشرقي بقيادة روسيا من خلال بوابة الحرب السودانية والاتفاق على تعاون إستراتيجي بكل محاوره العسكرية والسياسية والاقتصادية جعل كل أفريقيا تفور كالمرجل جراء رد فعل المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
فمساعي التغلغل الروسي في شرق السودان المطلّ على البحر الأحمر لم تتقطع؛ حيث سعى الكرملين منذ سنوات إلى تدشين قاعدة عسكرية في بورتسودان، بحيث ترسو السفن الروسية الحربية وتسيطر على واحد من أكثر الممرات البحرية كثافة وأهمية في العالم، وأخيراً وجدت موسكو ضالتها في الحرب الحالية التي كان للغرب والولايات المتحدة الدور الكبير في إشعال نارها وتغذيتها واستمرارها من قبل وكلاء وحلفاء الولايات المتحدة الإقليميين بشكل اضطرت معه الحكومة وقيادة الجيش السوداني التوجه شرقاً والتحالف للحصول على الدعم والإسناد، من خلال تفعيل صفقة القاعدة العسكرية الروسية في بورتسودان مع حكومة السودان العسكرية التي تم تجميدها في السابق نتيجة لضغوط أمريكية.
في حين ظهرت بالفعل مخاوف لدى مؤسسات مالية أفريقية ودولية من امتداد الاضطرابات إلى البلدان المجاورة، أو حدوث تدهور في البيئة الأمنية للمنطقة الأوسع، كما شوهد بمنطقة الساحل الأفريقي في السنوات الأخيرة.
الدول المجاورة للسودان مهددة اقتصادياً بتحجيم التمويلات التنموية في ظل أوضاع معقدة
ففي واحد من أحدث البيانات الصادرة عن وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني بشأن السودان، تشير إلى أن استمرار الأزمة يهدد تصنيفات البنوك العاملة في البلاد على هذا النحو:
– البنوك التنموية متعددة الأطراف التي تركز قروضها في تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا ومصر ستكون أول المتأثرين.
– بلغت قيمة قروض بنك التنمية والتجارة في السودان 931 مليون دولار بنهاية عام 2022م.
– في حالة تأمين البنك على 213 مليون دولار من هذه القروض سيخفف من الآثار السلبية المحتملة.
– نحو 34% من قروض بنك التجارة والتنمية الأفريقي في السودان والدول المجاورة فقط.
– البنك الأفريقي للاستيراد والتصدير (أفريكسم بنك) وجه 31% من تمويلاته لدول متاخمة للسودان.
الدول الأكثر تضرراً
ارتبطت بداية الاضطرابات السياسية في السودان بقرارات من مؤسسات مالية دولية، بإيقاف أي مساعدات أو تمويلات مع ارتفاع أخطار عدم السداد، دفعت الاضطرابات السياسية في أكتوبر 2021م البنك الدولي إلى تعليق مساعدات بنحو 500 مليون دولار، كانت مخصصة لدعم ميزانية السودان، كجزء من تعهد بمنح قدرها مليارا دولار.
كما أوقف صندوق النقد الدولي تمويلاً بنحو 150 مليون دولار، بعد أن وافق في يونيو 2021م على برنامج قروض بقيمة 2.5 مليار دولار، وعلقت واشنطن مساعدات بقرابة 700 مليون دولار.
ومع وجود مخاوف من اتساع رقعة الاشتباكات وامتدادها لدول مجاورة، أصبحت تمويلات التنمية محل تهديد، ولا سيَّما في دول القارة السمراء المشتركة في الحدود مع السودان.
وبحسب تقرير وكالة «موديز»، قد يؤدي الصراع بالسودان لخفض التصنيف الائتماني للكثير من البنوك العاملة في البلاد، وكذلك البنوك المانحة لتمويلات بهدف التنمية، بما في ذلك بنك التجارة والتنمية، وبنك الاستيراد والتصدير الأفريقي، وفي الدول المجاورة.
دول جوار السودان لها مصلحة اقتصادية كبيرة في إيقاف الحرب وإلا ستقع خسائر كبيرة لها
وتضيف «موديز» أنه إذا تحولت الاشتباكات إلى حرب أهلية ممتدة في السودان، ستنتقل الأخطار المالية إلى الدول المجاورة أو تضعف البيئة الأمنية في المنطقة؛ مما سيثير قلق البنوك التنموية متعددة الأطراف، التي تركز قروضها في تشاد وجنوب السودان وإثيوبيا ومصر.
إنّ الأخطار الاقتصادية تتزايد مع استمرار تفاقم الأزمة، وعدم وضوح الرؤية الخاصة بشأن حل هذا النزاع العسكري، كما أنّ الدول المجاورة مهددة اقتصادياً بتحجيم التمويلات التنموية، في ظل أوضاع معقدة بالفعل تسبق اشتعال الصراع في بلاد النهرين، وسيفرض مزيد من الحاجة إلى الاعتماد على التمويلات الدولية خاصة العاجلة منها، ولا سيَّما المرتبط بالأمن الغذائي.
إنّ ارتباط الدول الأفريقية بالسودان سيؤثر عليها سلباً الآن خاصة المغلقة منها مثل إثيوبيا، نظراً للاعتماد على الموانئ السودانية في التجارة الدولية، بالإضافة إلى أن مرور بضائعها عبر ميناء بورتسودان أصبح محل تهديد كبير منذ بداية الصراع؛ مما جعل إثيوبيا تتحسب للأمر واللجوء إلى صوملاند – هيرجيسيا الصومالية الانفصالية وإبرام اتفاقية كان من شأنها رفع حدة التوتر الدبلوماسي والأمني بين دولة الصومال الاتحادية وإثيوبيا الفيدرالية.
إضافة إلى إضعاف قدرات الدول الأفريقية عموماً -خاصة المجاورة للسودان- على الوفاء بالتزاماتها الخارجية، وتوفير احتياجاتها من الواردات؛ ما سيدفعها لاستنزاف احتياطياتها الإستراتيجية.
بالتالي، فدول الجوار وجوارها، وحتى الاتحاد الأفريقي، لها مصلحة اقتصادية كبيرة في إيقاف هذه الحرب بالسودان، وإلا ستقع خسائر كبيرة لها وللقارة السمراء ككل، من منظور النمو الكلي للقارة، حتى وإن لم تكن طرفاً في النزاع.
______________________
1- وكالات أنباء محلية ودولية.
2- وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني.
3- مقالات استقصائية عن حرب السودان للكاتب على مدونته الشخصية بـ«فيسبوك»؟