يعيش السودان اليوم بسبب الحرب الداخلية المستعرة صراعاً سياسياً، وأمنياً، واجتماعياً شديد الخطورة على كيان الدولة، ويكاد يعصف بها من القواعد، وهو بلا شك منعطفٌ أشد خطورة من ذلك الذي كان قد أفضى لانفصال جنوب السودان في يوليو 2011م.
إن الذي يحدث للسودان جراء مخططات دولية بمساندة إقليمية، تتردد أصداؤه في صحراء الانكسار والتراجع العربي، صحراء لم تبد فيها جُدر الأمل إلا كبقايا أطلال دواسر لا تستثير شيئاً غير البكاء بِسِقطِ اللّوَى بين الدَّخولِ فَحومَلِ، فالسودان اليوم كطفل يتيم ملتاع فقد السند ويحدوه الأمل في عشيرته الأقربين ليقيلوا عثرته ويضموه إلى حضنهم.
يكفي المرء التأمل بحسرة في تفاعلات الأحداث العربية خلال العقود القليلة الماضية، فسرعان ما يصل إلى حقيقة مأساة الوضع العربي، الذي لم يعد مأزوماً بعجز جامعتهم عن القيام بأي فعل إيجابي فحسب، بل بغياب تام عن المسرح إقليمياً قبل أن يكون دولياً؛ فالجامعة العربية غدت هيكلاً بلا معنى أو مضمون، ولا تُحِسّ منها فعلاً أو تكاد تسمع لها ركزاً.
لم يكن السودان سعيداً ببيان القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في البحرين، في مايو الماضي؛ وقد كان يُنظر لها باعتبارها أول قمة تصادف هذا المنعطف الذي يمر به فتصاعدت آماله فيها حتى لامست عنان سمائه المكفهرة.
الجامعة العربية غدت هيكلاً بلا معنى أو مضمون ولا تُحِسّ منها فعلاً أو تكاد تسمع لها ركزاً
ورغم أن الفقرة الخاصة بالسودان تضمنت في بيان القمة: «كامل التضامن مع السودان، في الحفاظ على سيادته واستقلاله ووحدة أراضيه والحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية وفي طليعتها الجيش القومي»، غير أن البيان حث في ذات الوقت الحكومة السودانية ومليشيا «الدعم السريع» المتمردة على الجيش، على ما أسماه بالانخراط الجاد والفعال مع مبادرات تسوية الأزمة.
ولأن بيانات الجامعة العربية وقراراتها لا تنحاز إلى الصواب طالما هناك ولو عضو واحد له اعتراض على رأي اتسم برضا الأغلبية، فإنها تخرج مشوهة لاستيعاب ذلك الاعتراض إرضاء لمن يخالف الأغلبية؛ فقد تجاوز البيان في هذه الفقرة وتغاضى عما اتفق عليه في ذات البيان بالحفاظ على طليعة مؤسسات الدولة السودانية، وهي القوات المسلحة كما أقر بذلك البيان نفسه، ليساوي لاحقاً بين الجيش والقوات المتمردة عليه التي تحولت إلى مليشيا إرهابية ترتكب جرائم إبادة جماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وهذا ليس توصيف الحكومة السودانية، بل إن هذه الحقائق المؤلمة مشت على الأرض، وجاءت بها تقارير الأمم المتحدة، وتقارير صحفية دولية ذات مصداقية عالية.
لكن بيان الجامعة دعا اعتسافاً الجيش السوداني لإجراء «تسوية» مع المليشيا لحل الصراع، وهذا يعني تجاوز الجرائم، والقفز نحو مقاربة سياسية تعطي المليشيا مشروعية أخلاقية مفقودة قبل أن تعطيها مشروعية سياسية تعيد بها إنتاج الأزمة مستقبلاً، وكان من المأمول إدانة تمردها على القوات المسلحة ثم ارتكابها جرائم إرهابية ليس ضد القوات المسلحة فحسب، وإنما ضد المواطن السوداني الأعزل الذي طردته من بيته، واغتصبت عرضه، ونهبت أمواله.
الأهمية الإستراتيجية
لا شك أن فكرة جامعة الدولة العربية بقيت فكرة حالمة تتأسس على أشواق تعتمل في نفس كل عربي، لتحقيق الوحدة، والتضامن، والرخاء الاقتصادي، وقيام تجمع قوي، ومؤثر إقليمياً ودولياً، ويعكس الثراء الثقافي، والقيمي للمنطقة، وشعوبها فضلاً عن ثرائها الطبيعي بموارد الطاقة، والمياه، والثروات الحيوانية.
غير أن الجامعة العربية بتركيبتها الهيكلية ونسق قرارها البيروقراطي الذي يتخذ من المنطقة الرمادية سكناً وموئلاً، لم تتمكن البتة من اتخاذ قرارات قادرة على تحقيق الأحلام العربية.
المفارقة المدهشة أن الجامعة العربية تضم أكبر دولة زراعية تلقب بـ«سلة غذاء العالم العربي»؛ وتضم في الوقت نفسه أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم!
.. وبتركيبتها الهيكلية ونسق قرارها البيروقراطي لم تتمكن من اتخاذ قرارات تحقق الأحلام العربية
لقد ظلت جهود الجامعة العربية بشأن التكامل الاقتصادي لا تنفك من دائرة الترويج الدعائي، ومنتديات أدمنت فن العلاقات العامة، وظلت اجتماعات ودعوات المجلس الاقتصادي العربي تسمعنا ضجيجاً ولا نرى منها طحيناً، فلا الجامعة باعتبارها منظمة إقليمية أظهرت إرادة قوية، ولا الدول الأعضاء كأفراد أظهرت تلك الإرادة، والنتيجة فشل جمعي وهو حاصل جمع الفشل الفردي.
ما لم تعد الأموال العربية التي أصابت بنوك أمريكا وأوروبا بالتخمة إلى أوطانها لن يفلح العرب ليس في تحقيق الوفرة الاقتصادية، ولكن حتى في رتق الفجوة، وسد رمق جموع ملايين الفقراء في الوطن العربي المأزوم بالاستسلام للإستراتيجيات الغربية المعادية، والداعمة لـ«إسرائيل» الدولة الغاصبة.
البُعد الجيوساسي
إن وجود 10 دول عربية تجمع بين عضوية الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي يمكن أن يمثل دافعاً قوياً لمسيرة تعاون إستراتيجي عربي – أفريقي؛ خاصة أن أكثر من نصف العرب يعيشون في أفريقيا (نحو 60%)، وأن 25% من الأفارقة هم عرب، وأكثر اللغات التي يتحدث بها أهل أفريقيا العربية.
منذ نحو أكثر من عقدين أحيلت قضايا السودان إلى غرفة الإنعاش الأفريقية؛ ولم يعد للجامعة العربية أي مساهمة تُذكر عدا مساهمة قطر في توقيع سلام دارفور في يوليو 2011م، ولعل الحكومة السودانية مدينة بشدة لمواقف الاتحاد في ذلك الوقت بشأن عدد من قضايا البلاد الراهنة، منها موقفه من المحكمة الجنائية الدولية التي تسعى لمحاكمة الرئيس السوداني، وذلك على عكس مواقف الجامعة العربية؛ ففي القمة العربية في نواكشوط عام 2016م طالب السودان الجامعة العربية بموقف مماثل لموقف الاتحاد الأفريقي الذي كان قد اتخذ قراراً بعدم التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية، ولكن دون جدوى.
منذ عقدين أحيلت قضايا السودان إلى غرفة الإنعاش الأفريقية ولم يعد للجامعة العربية مساهمة تُذكر
بعد انفصال جنوب السودان في عام 2011م، نصب العرب البُكائيات في مختلف أرجاء الوطن العربي حُزناً على انفصال جزء عزيز من الوطن الكبير، وبعيداً عن التفاعلات الداخلية، والتاريخية التي أدت إلى مآل الانفصال؛ نستطيع أن نقول: إن انفصال جنوب السودان كان نتيجة حتمية لخلل هيكلي في الأمن القومي العربي، هذا الأمن المختل أضاع فلسطين، وما زالت هناك العديد من المهددات التي تتربص بهذا الوطن.
الأمن القومي بمفهومه الشامل يتضمن الجوانب الاقتصادية مثلما يتضمن الجوانب السياسية، ولم تتحرك الجامعة العربية تجاه السودان بما يكفي بمنظور اقتصادي أمني، حيث إن الخُذلان العربي للسودان في جانبه الاقتصادي يتضاءل ويتواضع أمام الخُذلان السياسي العسكري.
إن هناك إحساساً مرّاً لدى السودانيين بأن بعضاً من الدول العربية تنظر للأزمة الحالية في السودان بأنها مجرد مشكلة أفريقية، أو شبه عربية، أو أنه صراع غير إستراتيجي، ولا يتعلق بأمن المنطقة العربية فلا يقتضي التعامل معه كذلك.
ويبدو أن الجامعة العربية تنخرط بوعي، أو بغير وعي، في المخطط الدولي الغربي الإستراتيجي الهادف إلى تجزئة وتفتيت الدول العربية ذات الوزن الجيوسياسي الغنية بالثروات الطبيعية والبشرية، ليبقى دورها تلطيف المخطط والتمهيد له وتمرير وشراء الوقت اللازم لإنجازه عبر الإنهاك العام، ومن خلال الجيل الرابع من الحروب غير المتماثلة الذي يتمظهر في خلق حروب داخل الدول المستهدفة عبر مليشيات جهوية، وعنصرية تؤدي لإعلان انفصال أقاليم تابعة لها، فتحقق تلك الدول الاستعمارية بذلك هيمنتها، وإرادتها من غير أن تبعث بجندي واحد إلى أرض المعركة وإراقة دمه وتراق عوضاً عن ذلك دماء أبناء الدولة المستهدفة.