لم تكن الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة المنورة مجرد انتقال عادي لمجموعة من الأفراد من بلد إلى آخر، بل كانت هجرة كبيرة يمكن التعبير عنها بأنها هجرة بلد إلى بلد آخر، ولأن العدد المهاجر كبير، وقد هاجروا وهم لا يملكون من الدنيا شيئاً، حيث إنهم خرجوا من مكة من غير أن يأخذوا من أموالهم وتجارتهم شيئاً، وعندما وصلوا إلى المدينة المنورة أصبحوا في حاجة إلى المأوى والطعام والشراب والعمل، فكيف استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم حل هذه المشكلة؟
والجواب يتمثل في معرفة طبيعة المشكلة بشكل واضح، ثم الخطوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم لحل هذه المشكلة، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: رسم الصورة الكاملة للمشكلة الاقتصادية بالمدينة:
تمثلت المشكلة الاقتصادية للمهاجرين إلى المدينة في انتشار البطالة بينهم، حيث إنهم كانوا تجاراً، والمدينة تتسم بالطابع الزراعي، أما المركز التجاري فيها فكان يسيطر عليه اليهود، فهم أصحاب السوق، وهي سوق بني قينقاع، نسبة إلى القبيلة اليهودية المسماة بهذا الاسم، حيث كانت السوق في ديارهم، وقد اشتهرت بصناعة الحلي والزينة والأسلحة والأدوات المنزلية، وكان اليهود يتعاملون فيها بالربا والمقامرة والاحتكار ويفرضون الإتاوات على المتعاملين فيها(1).
ويضاف إلى ذلك أن المدينة كانت تعاني آنذاك من الفقر، حيث كانوا يحاولون تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الزراعية القليلة، وعندما حدثت الهجرة زاد عدد السكان بشكل غير متوقع، وهنا أصبح طعام الواحد لا بد أن ينقسم إلى اثنين أو أكثر، وهذا ما صوّره القرآن الكريم تصويراً دقيقاً في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9)، فقد بينت الآية الكريمة أن الأنصار كانوا يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؛ أي: ولو كانوا في أمسّ الحاجة إلى ما يعطونه للمهاجرين، وهذه هي الصورة الحقيقية للإيثار، وهي تقديم الآخر على النفس رغم الحاجة الشديدة للشيء، وهذه الصورة ترسم الحالة الحقيقية للمشكلة الاقتصادية بعد الهجرة، التي يمكن إجمالها في البطالة وقلة الزاد.
ثانياً: الخطوات التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم لحل المشكلة الاقتصادية بالمدينة:
1- الإخاء؛ الذي يعبر عن فلسفة اقتصادية عبقرية بالإضافة إلى البعد الاجتماعي، حيث أسهم الإخاء في توفير الطعام والشراب والمسكن للمهاجرين، مع حسن توزيع هذا العبء على الأنصار، فكل أنصاري يصبح أخاً لمهاجري، ويشاطره طعامه وشرابه ومسكنه، وقد استقرت الأمور بينهم على هذه الحال عن رضا خاطر وطيب نفس(2).
2- الدعوة النبوية الشريفة للأنصار أن يحرصوا على زيادة الرقعة الزراعية، فأهل المدينة أهل زراعة، وهنا كان لا بد من استصلاح عدد أكبر من الأراضي وتوسيع الرقعة الزراعية حتى تسهم في تحقيق الكفاية من الطعام لجميع سكان المدينة، وهنا وضع الرسول صلى الله عليه وسلم قاعدة شرعية تقول: «مَن أحيا أرضًا ميتةً فَهيَ لَهُ»(3)، وعلى هذا تمت زراعة الكثير من الأودية في المدينة المنورة، منها: وادي العقيق، ووادي بطحان، ووادي مهزوز، ووادي قناة، وغيرها من الأودية(4)، حتى أصبحت الزراعة في المدينة عماد الإنتاج الغذائي الذي يسهم في تأمين الجانب الاقتصادي فيها(5).
3- ممارسة المهاجرين النشاط التجاري الذي يجيدونه؛ فقد كان المهاجرون يجيدون التجارة، ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري عن عبدالرحمن بن عوف قال: لَمَّا قَدِمْنا المَدِينَةَ آخَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيْنِي وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، فقالَ سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ: إنِّي أكْثَرُ الأنْصارِ مالًا، فأَقْسِمُ لكَ نِصْفَ مالِي، وانْظُرْ أيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لكَ عَنْها، فإذا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَها، قالَ: فقالَ له عبدُالرَّحْمَنِ: لا حاجَةَ لي في ذلكَ، هلْ مِن سُوقٍ فيه تِجارَةٌ؟ قالَ: سُوقُ قَيْنُقاعٍ، قالَ: فَغَدا إلَيْهِ عبدُ الرَّحْمَنِ، فأتَى بأَقِطٍ وسَمْنٍ.
ففي هذا دليل على مهارة المهاجرين في التجارة، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين إلى استخدام هذه المهارة من خلال شراء المنتجات الزراعية، وتصديرها للقبائل المجاورة، وقد جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: قسِّم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: «لا»، فقالوا: تكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا.
ففي هذا الحديث إشارة إلى أن المهاجرين لم يعملوا في زراعة الأراضي بالمدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تمثل عمل المهاجرين في تسلم المحاصيل الزراعية وبيعها بحيث يمارس كل فرد في الدولة تخصصه، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غنم أراضي بني النضير وغيرهم من اليهود في يثرب وأقطع منها للمهاجرين، أعطوها مزارعة لمن يصلحها لهم ويزرعها مقابل شيء معلوم من نتاجه فهم ليسوا أهل زراعة بل تجارة(6).
4- إقامة السوق بالمدينة المنورة، فتلك الخطوة اللازمة بعد اتساع الرقعة الزراعية، كما أن التجارة التي يقوم بها المهاجرون تحتاج إلى سوق لا يتحكم فيها اليهود ولا يقرضون عليها الإتاوات، بالإضافة إلى المبادئ الإسلامية في التجارة، التي تقوم على الصدق والأمانة، تحتاج إلى سوق جديدة.
ولهذا ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكانٍ قريبٍ من سوق بني قينقاع وضرب قبة (خيمة) كبيرة لتكون رمزًا وعلامة يتجمع حولها المسلمون للبيع والشراء، فاغتاظ اليهود من ذلك، وقام كعب بن الأشرف، زعيم اليهود، فهدم الخيمة وقوّضها وقطع أطنابها، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يجعل لهذا التصرف قيمة ولم يلتفت إلى هذا السلوك الاستفزازي، وهذه المحاولة اليائسة من قبل عناصر اليهود المتعصبة، بل رد عليها عمليًّا فقال متحدثًا عن كعب بن الأشرف: «والله لأضربن له سوقًا، وأنقلها إلى موضع هو أحسن من هذا»، واختار مكاناً فسيحاً بأطراف المدينة بعيدًا عن المحال السكنية وذلك باقتراح من أحد الصحابة الذي قال للنبي: إني نظرت موضعًا للسوق، أفلا تنظرون إليه؟ قال: «بلى»، فقام معه، فلما رآه أعجبه وركض برجله صلى الله عليه وسلم وقال: «نعم سوقكم هذا، فلا ينقضن ولا يضربن عليكم بخراج»(7)، ويقصد بذلك: لا بد وأن تكون السوق واسعة ولا يضيق التجار بعضهم على بعض في الأماكن، كما لا يفرض على المتعاملين فيها إتاوات(8).
_______________________
(1) معجم البلدان، ياقوت الحموي (4/ 424).
(2) رؤية معاصرة لاحتفالاتنا الإسلامية، محمد سلطان، ص 30.
(3) أخرجه أبو داود (3073)، والترمذي (1378).
(4) معجم البلدان، ياقوت الحموي (1/ 446).
(5) فن حل الأزمات تطبيقات عملية من خلال السيرة النبوية، د. أحمد الصاوي، ص 2208، مقال بمجلة الأزهر، عدد ذي الحجة 1440هـ.
(6) الخراج، أبو يوسف، ص 74.
(7) أخرجه ابن ماجه (2233).
(8) فن حل الأزمات تطبيقات عملية من خلال السيرة النبوية، مرجع سابق.