كاتب المدونة: د. عبدالمنعم مجاور
هل النحو العربي حقًّا علمٌ صعبٌ، يكتنفه التعقيد؟ أم أنّه يمكن للعطّار أن يُصلح ما أفسده الدهر؟
لا أعتقد أن هناك عِلمًا من العلوم قد لحقته جنايةٌ، أو نالتْ منه شائعةٌ وذاعت كما نالت شائعة الصعوبة والتعقيد من علم النحو العربي وذاعت، وإذا أردت أن تتأكّد من تأثير شائعة ما على سُمعة المُشاع عنه فلن تجدَ أوضح من تأثير شائعة الصعوبة والتعقيد على ذلك العِلم الشريف! فإذا عزمتَ على أن تتأكد من صحة ما أقول فلن يستغرق الأمر منك جهدا كبيرا؛ إذ يكفيك أن تطرح سؤالًا بسيطًا على أي فئة من فئات المجتمع العربي- صغيرهم وكبيرهم، ذكرانهم وإناثهم، بل وهممتُ أن أقول: وإنسهم وجنَّهم، وذلك لفرط الذيوع، وسعة الانتشار- تسألهم عن رأيهم في ذلك العِلم، فإنك بمجرد أن تتفوه بكلمة “النحو” فستأتيك على الفور الإجاباتُ تَتْرَى؛ حينًا باللسان، وأحايين كثيرة بامتعاضة تَظهر على تعبيرات الوجه، أو حركاتِ رفضٍ تدل عليها إشاراتُ اليدين، وغمزاتُ العين.. فما أسباب إلحاقِ مثل هذه الفِريَة بهذا العِلم؟! ومن ينفخ فيها؟ وهل الطعن يأتيه من الخارج أم من نيران صديقة بالمصطلح العسكري الدارج؟!
إن جُلَّ التُّهَم كثيرًا ما تُلصَق بالمُتَّهم من خارج دائرته، من عدوٍّ يتربص، أو غريب يتلصّص، ولكنَّ تُهمةَ صاحبنا قد أتته من بني جِلدَته- في المقام الأول- وهذا ما يُدمي، ويجعل وَقعَها أقوى وأشد، وأثرها أبقى وأظهر، فكان لها عليه من الجناية الكثير، وكأنّ بيت طرفة بن العبد ماثلٌ فيها بلفظه، حاضر فيها بمعناه:
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ
وإذا أرجعتَ أسباب ذلك إلى كثرة تفريعات هذا العِلم، وتعدُّد مساربه واحتمالات مسائله، أو إلى صعوبة اللغة التي بها أُلِّف، ووَهَن الحُجج التي عليها بُنِي، فإنّك في كثير من ذلك مُحقٌّ، ويكفيك تأكيدًا لكلامك الاستشهادُ بما قالوه عن ذلك، من مِثل: “أوهى من حُجّة نحوي” أو بما ثار به بعض الشعراء على بعض النحاة من مثل ثورة الفرزدق على عبد الله بن أبي إسحق عندما عاب الأخيرُ شعرَه لخفضه كلمة “منثورِ” في البيت الأول، ورفعِه كلمةَ “ريرُ” في البيت الثاني، وذلك في قوله:
مُستقبلينَ شمال الشام تضربُهم… بحاصبٍ كنديفِ القطنِ منثورِ
على عمائمِنا تُلقى وأرحُلنا … على زواحفَ تُزجى، مُخّها ريرُ
فقد سأل ابن أبي إسحق الفرزدَقَ مستنكرا: علامَ رفعتَ في البيت الثاني؟! فأجاب ثائرًا: على ما يسوؤك وينوؤك، علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا!
وإذا سلّمنا معك بصواب ما ذهبتَ إليه من أسباب، فإنّ الموضوعية والإنصاف يدعوَانا إلى إرجاع كل ذلك إلى عوامل خارجية ليس للنحو فيه يد، ولا عليه فيها جريرة، فهو هنا مجنيٌّ عليه، وليس جانيًا، فهل من الإنصاف جلْد الضحية، وتبرئة ساحة الجاني؟!
إنّ كثيرًا من تلك الصعوبات والإشكالات النحوية إنّما مَردُّها إمّا إلى مؤلِّف اعتاد التعقيد منهجًا ظنًّا منه أن ذلك سبيلُ المنهج، وأساس هذا العِلم، وعنوانُ تَمَكُّنٍ وإحاطة، وإمّا لأساليب التدريس التي تقدِّم هذا العِلم منبَّتًّا عن غيره من العلوم والنصوص الراقية، فتقدمّه بشكل نظري قائم على التركيز على تعداد البنود والاحتمالات تحت كل مسألة دونما معايشة حقيقية لروح ذلك العلم، والإفصاح عن مكنونه، مع إغفال – في كثير من الأحيان- للسياق ودوره، والمعنى وأثره.
هذا، إضافة إلى أنَّ تلك الصورة الذهنية التي رُسمتْ في المُخَيِّلَة، ورسخت في الأذهان إنّما هي نتاج إرثٍ طويل مديد من سريان مفعولِ تلكِ الشائعاتِ التي عَبَرتِ العقودَ والأزمان قبل أن تجتازَ الفيافيَ والآطام؛ لتُعَدّ مُسلَّمةً من المسلَّماتِ، وبديهة من البديهات، فأصبحت ضمن الحقائق الراسخة، والقواعدِ الثابتة، فإذا قلتَ: وما السبيلُ؟ وهل هناك ما يثبت غير ما ذكرتَ؟ قلتُ لك: إن لُحمةَ هذا الأمر وسُداه إنّما هي في يد المُعلِّم أو الأستاذ، فكم من معلّم خاض غمار هذا الصعب الوَعِر-على ما وَهِمَ الواهمون- فجعله سهلًا ميسورًا، وأضحى هذا العِلْمُ به بابًا لعلوم كثيرة، بل مفتاحًا وطريقًا لعلوم العربية كلها؛ إذ به الولوجُ إليها، والإفادةُ منها بل والاستمتاعُ بها أيضًا؛ وذلك عائدٌ – إلى جانب رصانةِ الأستاذ وتَمَكُّنِه، وامتلاكِه ناصيةَ ما يُعَلِّم- إلى صفاتٍ شخصية تكمن فيه، وسمات خاصة حباه اللهُ إياها، ولعل أولَها دخولُه إلى قلوبَ طلابه، وحَدَبُه عليهم، وعنايتُه بهم، وحرصُه على إفهامِهم دونما قسرٍ لمسائل هذا العلم أو ليٍّ لأعناق النصوص لتخدم القاعدة، وإنما سبيلُه في ذلك عكس ما توهم كثيرون، بأن جعل النصوصَ ناطقة بتلك القاعدة، دالة – دونما عناء- عليها.
وسأضرب لك هنا مثلًا لذلك أستاذًا هو عَلَمٌ في هذا الباب، وشيخٌ من شيوخ هذا العِلم الذي أضحى بين يديه فَنًّا، وشتَّان بين عِلمٍ وفنّ، فإذا سألتَ: ومن أين جاءت فرادةُ هذا الشيخ وبراعتُه؟ أَمِنَ إبداعٍ في التدريس أم من رصانةٍ في التأليف؟ قلتُ لك: أعِرفُ مرادَ سؤالك، وأُدركُ المرمى الذي إليه تقصد، ففي خاطرك الآن أنه إمّا أن يجيدَ التدريس، وينبو عنه قلمُه في التأليف، وإمّا أن يجيدَ التأليف وتلين قناتُه في التدريس، ولكنّك يا سيّدي – غفر الله لك سوء ظَنِّك إن كنتَ قد ظننت- أمام رجل يجيد الفنّين معًا؛ فإذا أسعدك الحظُّ وجلستَ أمامه في قاعةٍ دَرسٍ، أو مُدَرَّج من مدرجات دار العلوم المهيبة، فسيأخذك بحلو حديثه، وسحر بيانه، وسيطوف بك مع الخليل بن أحمد الفراهيدي في بحور الشِّعر، فتجدُ ذلك العِلمَ – عِلمَ العَرُوض- فَنّا طَيِّعًا سهلًا، وستجد نفسك – لا إراديًّا- تُدَنْدِنُ بصوتك، وتضربُ بِرجْلِك تماشيا مع نَغَم الأبيات التي يُقطّعها على مسامعِك، بل أزعم – وليس الزعم هنا مَطيَّة الكذب- أنك ستظلّ في بيتك تُدَنْدِنُ بصوته، وتقلِّد حركاته، وتحفظ أبياته، بل ربما حَدث منك ذلك وأنت عائد في الطريق غير مكترث بعابر، ولا آبهٍ لمارّ!
ولا تظننَّ أنَّ ذلك قاصرٌ على العَروض دون النحو أو الصَّرف، فإنّ حظَّهما عنده من التمكُّن والإفهام لا يقل عن صِنوهما السابق، ولعل ما ساعده على ذلك أوّلا ذاكرة حافظة لاقطة – أدامها الله عليه- فهو لكتاب الله ﷻ حافظ واعٍ، ولأحاديث النبي ﷺ مطَّلِع مدرك، ولعيون الشعر العربي مستظهر متذوق، فيأخذك – في شرحه وبيانه- من تفسير آية، إلى الوقوف عند حديث شريف، ومن بيانِ مَثَلٍ عربي إلى إيضاح شاهدٍ شعري، مع ربط عجيب بين ما هو قديمٍ تراثي وما هو حديثٍ عصري ، وسأضرب لك مثلًا سريعا على ذلك الربط، سمعته بأذني، ورأيته بعيني، وَوَعَيتُه بقلبي وعقلي وأنا جالسٌ أمامه جلسة المريدِ إلى شيخه -أيام الطلب منذ عقود ثلاثة تفلتت منا تفلُّت الماء من بين فروج الأصابع- إذ عَرّج في شرحه على أبيات المُنخَّل اليشكري، ثم هأنذا أقرؤها الآن في كتابه المبدع: “دور النحو في الإبداع” يقول المُنخّل:
وأحُبُّها وتُحبّني ويُحبُّ ناقتها بعيري
يلتقط الشيخُ الجليل هذا البيت، يستطرد – وما أجمل استطراداته- فيقول:” إنّ هذه الصورة التي هي من عَلاقة بَوَادِينا في ذلك الزمان تنطلق خلال الماضي إلى الإحساس المعاصر؛ حيث نرى وجهَ القديم في مِرآة الحديث، وندركُ وجهَ الحديث في مِرآة القديم.. إنّ علاقة الحب الإنساني، ومعها علاقة الحب الحيواني يذكِّرُنا بالكادر الفنِّي البارع الذي صنعه مخرج هوليود في أفلام رُعاة البقر والغرب الأمريكي حيث تأتي البطلةُ من أقصى اليمين ممتطيةً صهوة جوادها، والبطلُ من أقصى اليسار ليحتضن فتاته في حب، ويلتقي الجوادان إلى أن يلتصق أنف هذا بذاك.. إنّ هذه الإضافة في الفيلم لم تُضِفْ كثيرا إلى ما شَكَّلَه المُنَخَّل اليَشْكُري من قديم الزمان.”
إن هذا الربط العبقري، وذلك الاستطراد الأدبي في إهاب درس نحوي لخير دليل على تَمَكُّنٍ “وحُسن تَخَلُّص” يخطف به الشيخ ألباب طلابه، أو بالأحرى مريديه، فيخرجهم من حِدّة القاعدة النحوية إلى بساط الأدب الممتد، وهل النحو عنده إلا صِنو الأدب؟!
إن الولوج إلى قلوب الطلاب باب مُوصِلٌ إلى أفهامهم، وقد كان شيخنا – أطال الله في النعماء بقاءه- على عِلم بهذا الباب كبير، وإدراك لخطورة دوره، خاصة وهو يدرِّس علمًا محكوما عليه مسبَقًا بالصعوبة والتعقيد؛ لذا تجده يخرج بك إلى نادرة عجيبة، أو قضية مثيرة، أو ربط بعيد مُعجِب، أو إلى لفتة أدبية في بيت شعري، أو قصة طريفة تسير في إهابه، إلى آخر تلك الأدوات الفنية التي يوظفها الفنانُ في رسم لوحته التي تزينها رتُوشُه، دون أن ينسى الغرض الذي من أجلها رُسِمتْ.
إن معرفة الأستاذ لحال المخَاطَب/المرسَل إليه – الطالب هنا- وتَمَكُّنَه من الرسالة المُرسَلة – الدرس النحوي- بل معرفته بالسياق على شموليته لخير مُعين على أداء مهمّته، التي اتخذها رسالة لا مهنة، وقيمة لا مجرد أداء واجب؛ لذا لا تعجب – وإن حُقَّ لك العَجب- إن وجدتَ طلابه يقبلون على درسِه بشغف، وينتظرون محاضرته بلَهَف، ويسمعونه بحواسِّهم كلها، بل إنهم ليكررون الحضور للمحاضرة نفسها أكثر من مرة، لا لصعوبةِ ما قَدّمه، وإنما للنَّهلِ من عطاء ثَرٍّ، وللاستماع لحديث حلو مسترسل، تأخذ فيه الكلماتُ بأعناق بعض، مع حوار علمي هادئ مع طلابه، ونَفَسٍ أبوي حميم معهم؛ أخذًا بأيديهم، وفتحًا أمامهم لآفاق هذا العلم وعلومٍ ناشئة على ضفافه.
إنّك أمام شيخ تسمع له وهو ينتقي كلماته كما تنتقي أنت حلو التمر، فتدرك أنك أمام “جواهرجي” يعرف قيمةَ جواهرِه ونفاسَتها؛ لذا لم يكن لِيُلقِيها جُزافًا، ولا لِيطرَحها مُجملَةً، وإنما يقدّمها على مَهَلٍ، وكأنما يعدُّ الكلام عدًّا، فكان للإيقاع دورٌ في إلقائه، كما كان له دور في تدريسه وتأليفه.
وإذا ما جئت إلى عالم التأليف، فستجد لذلك الإيقاع موضعًا لا تخطئه العينُ، ومنزلةً لا يمكن إغفالُها، يبدأ ذلك من اختياره عناوينَ كتبه التي يلعب فيها الجَرْسُ والإيقاع دورًا أساسيا، يشي بمضمونها، ويدل على مكنونها، وانظر إلى عناوين كتبه وبحوثِه لترى صحة ما ذهبنا إليه، وهاك منها: “النحو ودوره في الإبداع” “التدوير في الشعر: دراسة في النحو والمعنى والإيقاع”. “القافية: تاج الإيقاع الشعري”، “من وظائف الصوت اللغوي” و”النحو والسياق الصوتي.” بل إن له من الكتب الجامعية ما آثر فيه جانب الإيقاع على اعتبارات الكَمِّ، كان ذاك الكتاب يجمع بين الصرف والعَروض، فعَنْوَنَه بـ:” من قضايا الصرف والإيقاع” على الرغم من أن كَمِّ الصرف كان فيه أكبر، وقد سمعتُ منه ما يفيد ذلك الإيثار.
ولا تقف – بالطبع – قيمة ما أَلَّف عند جانب الشكل، وإنما فيها من الإضافات الحصرية على علوم النحو والصرف والعَروض ما يؤهله أن يوضع في مصاف أصحاب التجديد والإبداع في تلك العلوم، ولك أن تتصفح كتابه: ” القافية تاج الإيقاع الشعري” لتجد شيئا من ذلك باديا، ولا تقلُّ بقية كتبه وأبحاثه عن ذلك الكتاب المذكور قيمة وإضافة، على أن ميسم التأليف عنده مراعاةُ القارئ، وسلاسة الأسلوب، واتِّباع نهج الحوار إذا وجد إلى ذلك سبيلا من أجل مشاركة القارئ ومحاورته، وهو أسلوب به عُرِف، وعنه اُخِذ. فإذا ما تخطيتَ ذلك إلى اللغة الشاعرة التي تغلف القاعدة، وتبيِّن المبهم، وتوضح الغامض فإن حظَّه من كل ذلك وافر، حتى أضحى علم النحو على يديه سهلا محَبَّبًا إلى نفوس طلابه من المحيط إلى الخليج، فنَهَج كثيرٌ منهم نَهجه، وسار فيه على درْبِه، فكان لذلك أثره الإيجابي الذي لا يُنكَر .
كانت تلك الإطلالة لبيان أن علم النحو العربي، وغيره من علوم العربية التي يشاع عنها التعقيد والصعوبة هي مجرد فِرَى هي منها براء، وأن الأمر متعلِّق بمعلمٍ مخلص، وأستاذٍ قدير، وشيخٍ عالِمٍ مبدع، يتخذ من النحو – سيّد العلوم- منطلَقًا للكشف عن دُرَر العربية، وغائر مكنوناتها، معلم، وأستاذ وشيخ، وأديب كشيخنا الأستاذ الأزهري الدرعمي الأستاذ الدكتور أحمد كشك مدَّ الله في العافية عُمره، ونسأ في أجله، ونفع بعلمه.
وبعدُ، ألا تتفق معي بعد هذه الرحلة أن العطّار هنا – مجازا- قد أصلح كثيرًا مما أفسده الدهر؟! أم أن هذه الإطلالة لم تكن كافية وأنها بحاجة إلى أخوات لها يتدراكن ما فاتها، ويجبرن كسرها؟