فطر الله عز وجل الناس على محبة الأبناء والحرص والشفقة عليهم، حتى إنه يُطلق على الابن «فلْذة الكبد»، أي القطعة من الكبد ذلك العضو الشريف الذي يُعبَّر به عن الكائن الحي من ذوات الأرواح عمومًا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»(1).
وجاء في الحديث القدسي تسمية الولد بثمرة الفؤاد، فعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ وَلَدُ العَبْدِ قَالَ اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ..»(2).
وبمقدار هذا الحرص والشفقة والرحمة بالأبناء ومحبتهم يكون حزنهم وبؤسهم لشرود هؤلاء الأبناء وانحرافهم عن الجادة، وكثير من الآباء والأمهات يتمحورون حول الابن الشارد، ويجعلون منه كل حياتهم، فتتحول حياتهم إلى جحيم فعلي، ويصبح مؤشر سعادتهم أو تعاستهم في الحياة رهنًا لأحوال هذا الابن.
هذا التمحور حول الابن الشارد يصيب حياة والديه بالشلل، وغالباً ما يؤدي إلى إهمالهما شؤون بقية الأبناء فضلًا عن إهمال شؤون نفسيهما، وقد يصاب أحدهما أو كلاهما بأمراض نفسية مثل الاكتئاب الحاد، أو أمراض بدنية خطيرة كالسكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب وغيرها من الأمراض.
والسبب في الوصول إلى هذه الحال يرجع إلى خوف الأبوين على ابنهما من المصير في الآخرة، أو يرتبط ذلك بالشعور بالخزي والفضيحة والعار أمام المجتمع خاصة إذا كان من عائلة معروفة، وقد يزداد الأمر إذا كان الأب أو الأم من الدعاة وأصحاب التوجيه.
هذه العينة من الآباء الذين يوشكون على الهلاك بسبب أبنائهم الشاردين، لا نجاة لهم إلا بتصحيح المفاهيم والتصورات عن أمور عدة، منها: الغاية من وجودهم في الحياة، وأحوال الهداية، وتحديد معنى المسؤولية الشرعية في تربية الأبناء، وغيرها من المفاهيم.
وحتى يستقيم الحديث على نحو مرتب سلس، نجمل ما ينبغي أن يكون عليه الآباء والأمهات تجاه الأبناء الشاردين في النقاط التالية:
أولًا: الله تعالى لم يخلقنا إلا لعبادته تعالى؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من أقوال أو أفعال ظاهرة أو باطنة، فعلى ذلك دائرة العبادة واسعة جداً، ومن بين أفراد العبادة تربية الأبناء، فلم يخلق الله عباده فقط من أجل رعاية أبنائهم.
وتعطيل شؤون العبادات الأخرى من أجل وجه واحد من أوجه العبادات هو خلل واضح في التصور والسلوك.
ثانيًا: الآباء مطالبون ببذل الجهد فحسب مع أبنائهم وعدم التقصير في تربيتهم وتنشئتهم على الصلاح والتقوى، وكل ذلك من باب الأخذ بالأسباب، أما الهداية فهي بيد الله وحده، فالله تعالى خاطب نبيه في هذا الشأن قائلاً: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص: 56).
ثالثًا: الاستقامة ليست متاعًا يُورّث، وليس بالضرورة أن ينشأ الابن على طريق أبيه، وليس بالضرورة أن يكون أبناء الدعاة دعاة، وبناء على ذلك لا يعيب الآباء أن يسلك بعض أبنائهم سلوكاً معوجاً أو ينأوا بأنفسهم عن الاستقامة والصلاح، ولو كان ذلك يعيب المربي لعاب رسول الله نوحاً عليه السلام، فهو مع علو قدره وكونه من أولي العزم من الرسل، هلك ولده وهو على الكفر لم يؤمن بالله تعالى، وقصة نوح مع ولده مما تطيب بها نفوس الآباء المحترقة على أبنائهم المنحرفين، فهو عليه السلام لم يقصر في تربية ولده، ومع ذلك ظل على كفره ولم يؤمن، فليس انحراف الأبناء دليلاً على تقصير تربوي.
رابعًا: لا بد أن يدرك الآباء والأمهات الواقعون في هذه المشكلة، أن لأبدانهم عليهم حقاً، ولأنفسهم عليهم حقاً، ولأولادهم الآخرين عليهم حقاً، فلا ينبغي أن يضيعوا كل هذه الحقوق بسبب انحراف أحد الأبناء.
خامسًا: ضرورة أن ينظر الآباء والأمهات لقضية تربية الأبناء بمنظور تعبدي، فيكون همهم هو البذل الصحيح في تربيتهم بمقتضى هذه المسؤولية الشرعية، وإذا كانت هذه النظرة موجودة، فإنهم يركزون على جهودهم هم وليس على النتيجة، شأنهم في ذلك شأن الدعاة إلى الله تعالى من الأنبياء وأتباعهم، فهم لن يسألوا عن فساد وضلال الناس يوم القيامة، لأنهم قد أدوا ما عليهم من البلاغ.
سادسًا: الإيمان بالقدر أمر مفصلي في هذه القضية، فمما تطيب به النفوس في هذا الشأن الإيمان بأن هذا الانحراف قدر مقدور، والله تعالى لم يقدر شرًا محضًا، فما قد يراه الآباء من انحراف أبنائهم شرًا هو في الحقيقة لا يخلو من خير، هو شر في نظرتهم إليهم، لكنه وفق حكمة الله تعالى يحمل من الخير ما قد يجهلونه.
سابعًا: تذكير النفس بأن هذا الولد الذي يفني المرء حياته كمدًا عليه، لن ينفعه في الآخرة، بل الأب نفسه لن ينفع ولده في يوم قال الله تعالى عنه: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء)، وقال: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ {34} وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ {35} وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ {36} لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (عبس).
فالله تعالى خير وأبقى، وليست هناك علاقة دائمة نافعة إلا علاقة الإنسان بربه، فهذه العلاقة علاقة العبد بربه وعبوديته لله تعالى هي الأصل الباقي، وأما علاقة الإنسان بأهله وزوجه وأبنائه والناس جميعًا فهي علاقة فرعية متعلقة بوجود الإنسان في الحياة ككائن أراد الله لنسله البقاء إلى يوم القيامة، فكان التكاثر والذرية وسيلة لإمضاء هذه الحكمة.
نعلم جيدًا أن مشكلة الابن الضال المنحرف أو الشارد كابوس قائم في حياة الآباء والأمهات، لكن بتصحيح المفاهيم والنظرة إلى هذه القضية حتمًا سوف يضعف أثر المشكلة.
___________________
(1) صحيح البخاري (6009).
(2) سنن الترمذي (1021).