حُكي عن نابليون بونابرت قوله: «جيش من الأرانب يقوده أسد أفضل من جيش من الأسود يقوده أرنب»؛ تأكيداً لأهمية القيادة في حياة الأمم؛ إذ قوة الأمة في قوة قادتها القدوات، الذين لديهم القدرة على التوجيه والإرشاد، وإصلاح المجتمعات، ولديهم من النفوذ والقوة التأثيرية على الآخرين ما يحققون به إنجازات عظيمة وأهدافاً كانت بعيدة المنال، لا سيما القادة الربانيين، الذين يتحينون الفرص، ويستثمرون الأوقات، ويحرصون على طاقات الأمة من التبدّد والضياع.
سمات القيادة الناجحة
وهناك العديد من السمات التي يجب أن يتصف بها القائد الناجح، منها:
– الثقة بالنفس: وهو أمر نابع من الذات، من داخل القائد، الذي يعتز بذاته، ليس بطراً ورعونة، لكن بمقتضى مهارات وسلوكيات تظهر في المواقف الصعبة، وشعور بأهميته لسير العمل وتحقيق الإنجاز.
– المبادأة والإقدام والحسم: فهو شجاع مقدام، من دون تهور وحماس كاذب، إنما لديه القدرة على المواجهة المحسوبة وعدم التردد، من خلال رؤية وتصور واضحين، وبُعد نظر إلى المستقبل، فعل ذلك لأنه لم يغفل عن التخطيط لمدى بعيد.
من سمات القيادة الثقة بالنفس والإقدام والحسم والصدق والأمانة وطول النفس والنزاهة
– التدرج وعدم الارتجالية: وإنّ إقدامه ومبادأته لا تعني الارتجالية أو القبول بالأعمال الانفعالية، بل يسير بخطوات محسوبة وإستراتيجية متدرجة، فلا يطغى جانب على جانب، بل كل شيء منضبط، وكل أولوية في مكانها وزمنها المحدديْن مسبقاً.
– القدرة على التفويض: وتلك من أهمّ سمات القائد الناجح، فالتفويض لا يعني تخفّفه من أعبائه ومهامه، بل يكون دفعاً للعمل الجماعي وتوسيعاً لنطاقه، ودعماً لقيادات الصف الثاني، وصناعة رموز جديدة، مع الأخذ في الاعتبار أنه مسؤول عن نتائج هذه القرارات وتلك الاختيارات.
– الصدق والأمانة والصبر وطول النفس والنزاهة: وهي من جملة الصفات الخُلقية للقائد، وهي ركائز مهمة في نجاح أي فريق، فالقائد قدوة لمن معه، والرائد لا يكذب قومه، وعلى من يتولى الرئاسة أن يكون متين الخلق، قوي النفس، ذا طاقة معنوية تليق بما يتولاه من مهام جسام.
قادة المقاومة نموذجاً
يتحلّى قائد المقاومة بالسمات العامة للقائد -المذكورة سابقاً- نضيف إليها صفات قرآنية ونبوية اختُص بها الأنبياء والرسل؛ باعتبار منطلقاتهم الإسلامية، وخضوعهم لعقيدة التوحيد التي تميز بينهم وبين القادة الآخرين، فهم يجتمعون معهم في «الكاريزما» والملكات الخَلْقِية، لكن يختلفون في الصفات الخُلُقية والقدرات النفسية؛ فمن تلك القدرات:
– علو الهمة، والحلم والرفق، واحتمال الأذى، موقنون بنصر الله، وبوعده للصادقين المخلصين، فهم لذلك متوكلون على الله في كل خطواتهم.
– الإلحاح في تبليغ الأهداف الدعوية، وإن جاءت مقترنة بسياقات سياسية وعسكرية، ومن ثم إقامة الحجة على الجميع، بالقول والعمل.
– القدرة العالية على إدارة الأزمات، واتخاذ قرارات مصيرية، من خلال العمل الجماعي المتقن والشورى الملزمة.
قائد المقاومة في رباط لتحقيق رضا الله يستوي عنده الموت أو الحياة إما نصر أو استشهاد
– لا تعلق نفوسهم بعرض من أعراض الدنيا، ولا يغريهم جاه أو منصب، وليس لهم طمع في عارية مستردة، فهم يفرّون من كل الغايات إلى غاية واحدة هي الله رب العالمين.
– وقائد المقاومة لا يعرف اليأس؛ لعلمهم أن اليأس كفر، وهو ليس من أخلاق المسلمين، وليقينهم بأن أحلام اليوم هي حقائق الغد؛ إذ المسلم لا يعرف المستحيل.
– من ثم؛ فإن قائد المقاومة لا يعجزه شيء من صناعة البشر، فهو في رباط لتحقيق رضا الله، يستوي عنده الموت أو الحياة، أو هو بين خيارين؛ نصر أو استشهاد.
– وهو لا يرضى بالدنية والفضلة، ولا يقبل الضعف والهوان، ولا يعرف الكسل أو القعود، إنه يجهز لمعاركه، سبّاق إلى كل جديد، يسعى دائماً إلى بري سهمه وتجهيز قوسه؛ (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) (الأنفال: 60).
هنية.. القائد الشهيد
ضرب الشهيد إسماعيل هنية المثل والنموذج العملي لقائد عصري مقاوم، كأنه من طيف النبوة، أو من أثر السلف الصالح مما قرأناهم ولم نرهم، كُتب عليه القتالُ من يوم مجيئه إلى الدنيا حتى نيْله الشهادة، فقد وُلد في بيت منكوب بالتهجير، وذاق وهو طفل مرارة العيش تحت نيْر الاحتلال، حتى إذا شبّ عن الطوْق التحق بركب الكفاح، ورحل شهيداً وهو ابن 61 عاماً لم يذق خلالها طعم الراحة؛ من اعتقالات واغتيالات وحروب وقصف وحرق وتدمير، لكنه كان مثلاً في اطمئنان النفس وسكينة الروح وإشراق الوجه، غير جزع لموت أو هلع لفقدان، راغباً فيما عند الله، ينتظر الشهادة كأنما ينتظر حبيباً طال غيابه.
ظهرت بوادر القيادة عند هنية منذ صغره، فقد تولى رئاسة مجلس «الكتلة الإسلامية»، الذراع الطلابية لـ«حماس»، في سنته الأخيرة الجامعية، وبعد تفجّر انتفاضة عام 1987م عُيِّن عضواً بـ«لجنة المتابعة العليا للانتفاضة» ممثلاً عن حركة «حماس»، وعضو لجنة الحوار مع الفصائل والسلطة الفلسطينية.
لم يكن هنية قائداً سياسياً فحسب، بل حاز مناصب رفيعة في الجانب المعاشي، فقد تدرج في المناصب الإدارية في الجامعة الإسلامية بغزة حتى صار عميدها؛ ليحصل بعدها على الدكتوراة الفخرية، لم يعطله ذلك أن كان مديراً لمكتب الشيخ أحمد ياسين، ثم رئيساً للوزراء، ثم رئيساً للمكتب السياسي لـ«حماس».
الشهيد هنية كان النموذج العملي لقائد مقاوم كأنه من طيف النبوة أو من أثر السلف الصالح
تعرّض هنية للاعتقال على يد المحتل ثلاث مرات، اعتقل في إحداها ثلاث سنوات، وأُبعد عاماً إلى «مرج الزهور» بلبنان، وتعرّض لأربع محاولات اغتيال من «فتح» والصهاينة، وقُصف بيته عام 2014م، وفي «طوفان الأقصى» ارتقى 60 فرداً من عائلته، من بينهم شقيقته وثلاثة من أبنائه وعدد من الأحفاد.
ورغم كل هذا لم يتوقف، بل لم يتردد، بل لم يفقد الأمل للحظة في تحقيق هدفه، فيقول: «نحن هنا ثابتون، على أرضنا صامدون، مرابطون مجاهدون، والدولة آتية آتية، بإذن الله سبحانه وتعالى، إن لم تكن اليوم فغداً، وإن لم ننتزعها اليوم فسوف ننتزعها غداً بإذن الله سبحانه وتعالى، بل بتنا نشعرُ بأن الدولة أصبحت قريبة، وأن النصر أصبح قريباً؛ لأن الأمة حينما تتحرك وحينما تتحرر من أغلال وقيود العبودية، إذاً هي سوف تتحرك باتجاه فلسطين، كل فلسطين بإذن الله سبحانه وتعالى».
جمع هنية، باعتراف الجميع، بين «كاريزما» القيادة وأخلاق الإسلام، فبالإضافة إلى ثقته الشديدة في نفسه، وتمتعه بقدرات نفسية ذات تأثير كبير على قلوب الآخرين، وبشخصية ذات هيبة ووقار كما هو حال الزعماء؛ فإنه كان بسيطاً في كل شيء، شديد التواضع واللطف في معاملة الآخرين، حليماً حسنَ الخلق، شفافاً نزيهاً، وكان ذا عقل منير، وفهم مشرق، وعاطفة جياشة، وقلب فياض، وروح مشبوبة متألقة، ولسان بليغ، محاوراً مرناً، يحترم آراء الآخرين، حتى قيل: إنه يستحق بجدارة أن يكون لسان حال «حماس».