المرأة كائن كامل الأهلية؛ لأن «النساء شقائق الرجال»(1)، إلى جانب أنهن (لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228).
ولا تناقض بين كونهن كاملات الأهلية وقوامة الرجال عليهن؛ فلتنظيم الحياة لا بد أن يكون هناك بين الناس مرجع يحكم بينهم، ويفصل بينهم في الخصومات، ويُنفذ أمره بينهم، وإلا صارت فوضى.
فهذا في حق الرجال.
وكذا في حق النساء؛ فالأسرة تحتاج لضبط وإلا اختلطت الموازين.
فالإسلام أعطى للرجل حق الولاية على النساء من أهله كالبنات والأخوات.. إلخ، لكنه لم يجعل هذا الحق سيفًا مصلتًا على رقاب النساء، فيتم التضييق عليهن ومضايقتهن والتعسف معهن، بل جعلها ولاية كرامة وحفظ الحقوق وعدم تضييعها، ولاية رحمة ومودة وحب وليست ولاية قهر وظلم للمرأة.
لذا، وقف الإسلام بالمرصاد لمن يعضل المرأة ويضيِّق عليها ويقهرها ويُكرهها على ما لا تريد.
وأصل «العضل»: الضيق، ومنه قول عمر: «وقد أعضل بي أهل العراق، لا يرضون عن وال، ولا يرضى عنهم وال»؛ يعني بذلك: حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به.
ومنه أيضًا: «الداء العضال»؛ وهو الداء الذي لا يطاق علاجه، لضيقه عن العلاج، وتجاوزه حد الأدواء التي يكون لها علا(2).
وقد ذُكر في القرآن نوعان من العضل:
الأول: عضْل الأولياء: وجاء ذلك في قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 232)؛ وهذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان زوَّجها من ابن عم لها فطلَّقها، وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه، وهي فيه راغبة(3).
وليس كل من يطلق امرأته هو كاره لها؛ فقد يقع الرجل في ذلك في لحظة غضب لم يحسب عواقبها، وقد يطول عناده عن التراجع، وبعد ذهاب السكرة يرى أنه لا يقدر على هذا الفراق، وأن سلبيات الالتئام أكبر بكثير من سلبيات الافتراق، وأن سلبيات الالتئام يمكن التعايش معها وتجاوزها أو معالجتها، وعندئذ يريد أن يراجع أهله، وتكون المشاعر متبادلة من حبٍّ واشتياق ورغبة في التئام الشمل، إذ ترى المرأة أن بيتها الحقيقي هو بيت زوجها، وليس بيت أبيها أو أخيها، وتعيش في ضيق نفسي وكسرة لا جبر لها إلا باجتماعها مع شقيق روحها ومسكنه، فترفض الخُطَّاب لها، ولا ترى نفسها إلا مع رجلها الذي عاشرها وعاشرته، وعرفها وعرفته، وخبرها وخبرته.
وعندئذ لا يسارع وليها في إعادتها لزوجها، بل يعضلها طمعًا في مالها وأملاكها، أو حمية وغضبًا.
فالبعض يحب أن يستفيد من مدخول وليته إن كانت ذات وظيفة، ويتمتع به، ولا ينظر لحالتها النفسية، أو يضيق عليها في الرجوع طمعًا في مالٍ أو عقار سوف تتركه بعد موتها.
والبعض الآخر يحمل غضبًا على هذا الزوج الذي آذى وليته بالطلاق وبالأحداث الواقعة قبل الطلاق، أو بعدم مسارعته في إرجاعها في العدة، فيرفض إعادتها لزوجها بعقد جديد.
فلم يترك الله تعالى أمر النساء هكذا بلا ضابط ولا رابط في أيدي أوليائهن فأنزل: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)؛ أي: لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن -أيها الأولياء- من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد، تبتغون بذلك مضارتهن، فطالما أنهما (تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ)، وكانت المرأة تحب أن ترجع إليه، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله سبحانه أن يمنعوها، فليس للولي أن يعضلها حتى يرثها، ويمنعها أن تستعف بزوج، وعليه أن يترك الحمية ويستقاد لأمر الله(4).
الثاني: عضْل الأزواج: تقوم الأسر على المودة والسكينة والرحمة بين الزوجين، إلى جانب التعاون والتشارك فيما بينهما، وكل واحد يقوم بدوره الفطري المنوط به.
فإذا ارتفعت المودة ووقع الشقاق والخلاف فلا بأس بأن يتفرقا بالطلاق، وليأخذ كل طرف الحق المشروع له بلا تعدٍّ، لكن إذا وقع الكره قد يحتال البعض لأخذ حق الطرف الآخر، ويعمل بكل جهده وطاقته للإضرار البدني والنفسي بالطرف الآخر ليدفعه دفعًا لترك حقه.
فجاء النداء الرباني لجماعة المؤمنين في كل العصور: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (النساء: 19).
فقد نهى الله تعالى زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محبٌّ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصَّداق(5).
فحبْس النساء وعدم تسريحهن وقهرهن والإضرار بهن، رغم أنه لا حاجة لكم إليهن، كل هذا ليفتدين منكم بما آتيتموهن من صَدُقاتهن ومهورهن(6)، أمر لا يليق بالرجال ذوي المروءات؛ إذ إن هذا دليل على خسة ودناءة في الطباع.
وهناك عضل قريب مما سبق، وهو عضل أبناء الزوج لزوجة أبيهن؛ إذ إن بعض الأمهات يمتن قبل أزواجهن، فيتزوج الآباء من أخرى لخدمتهم أو رعايتهم أو للأنس، فيغار بعض الأولاد والبنات، ويسعون بكل جهد لعدم إنجاب الزوجة الجديدة؛ حتى لا تأتي بمن يشاركهم في الميراث؛ كأنهم قد ضمنوا الحياة والممات.
أو أنهم بعد موت الأب يعطونها دون نصيبها الشرعي، فيرضخون لهن دون الثُّمن؛ فهذا أكل للحقوق وعضل للمرأة من أناس لا هم من الأولياء ولا من الأزواج، لكنهم يرون أنها غريبة عليهم وليس لها من حق يماثل حق أمهم أو حقوقهم.
فالشح والأنانية والحمية والطمع والرغبة في السيطرة أدواء بشرية متأصلة في جذور قلوب بعض الرجال، فتدفعهم لعضل المرأة، ومن وقع فيها فهو مفسد للخلْق والمجتمع، محارب للخالق، ظالم لنفسه ولغيره.
وأخيرًا، فهذه صور من صور قهر المرأة عبر العصور، وهي أمور نهى عنها الإسلام، وشدد النكير عليها؛ كي تبقى المجتمعات الإسلامية قوية متينة مترابطة.
________________________
(1) جزء من حديث أخرجه أحمد في مسند الصديقة عائشة، ح(26195)، وقال الأرنؤوط: حديث حسن لغيره.
(2) تفسير الطبري (5/ 24).
(3) المرجع السابق (5/ 17).
(4) المرجع السابق (5/ 19-24).
(5) المرجع السابق (8/ 113).
(6) المرجع السابق (8/ 111).