تعمد الباحثون الغربيون المتخصصون في الشؤون الأفريقية عموماً والشؤون السودانية خصوصاً تجاهل الحديث عن دور الحرب الباردة في ظهور العنف بالسودان، وذلك لإخفاء الدور الاستعماري الذي يقوم به الغرب وحتى يستطيع التنصل من جرائمه وإلصاق ما يحدث بأطراف محلية والانسحاب وترك المجتمعات المحلية غارقة في الفوضى كما فعلوا في الصومال وأفغانستان.
إن ظاهرة تجنيد المجتمعات ضد بعضها أمر أتقنه الاستعمار، ومن ذلك ما حدث خلال الحرب الليبية التشادية التي جيشت المجتمعات العربية والأفريقية ضد بعضها، ولذلك اعتبرها السبب الرئيس في اشتعال الأزمة في دارفور خلال عصر الرئيس المخلوع عمر البشير، ثم تفجر الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع»، كما أنها سبب رئيس في ظاهرة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي خصوصاً مالي وبوركينافاسو والنيجر.
إننا عندما نرجع للحديث عن الحرب الليبية التشادية والصراع الفرنسي مع القذافي لا نتحدث عن التاريخ، بل عن الواقع؛ لأن الغرب في كل مرة يقوم بإنشاء مليشيات لحرب وكالة ثم يتركها ويتباكى على انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها علناً ويبارك جرائمها سراً.
عاشت منطقة الساحل الأفريقي في سلام طوال قرون قبل أن يظهر المستعمر الأوروبي في ظل سلطنات ومشيخات إسلامية تقليدية، لكن «المستدمر» الغربي الفرنسي نزع الحكم من هذه السلطنات الإسلامية وقام بإعطائها لحكومات وطنية علمانية من الأقليات العرقية والدينية؛ ما أدخل هذه المناطق في حالة كبيرة من الفشل والحروب، وكانت تشاد جارة السودان الغربية دخلت في حرب أهلية ضروس بعد الاستقلال بسبب أن فرنسا تركت الحكم للأقلية النصرانية جنوب البلاد التي كانت نسبتها السكانية تبلغ 15%، وتظاهرت حكومة ما بعد الاستقلال بالاشتراكية واليسار، لكنها كانت تعمل بجهدها على طمس الهوية الإسلامية للشعب وتشجيع المظاهر الوثنية.
في دولة تشاد التي كانت مستعمرة فرنسية، فإن فرنسا لم ترحل عن البلاد حتى سلمت الحكم للأقلية النصرانية جنوب البلاد بقيادة أول رئيس لتشاد بعد الاستقلال عام 1960م فرانسو تمبلباي، الذي كان دكتاتوراً مدنياً أعاق الحريات وتفرد بالسلطة وحل جميع الأحزاب السياسية ومنع من تأسس أي حزب جديد ما عدا حزبه (الحزب التقدمي التشادي).
فاندلعت انتفاضة في المناطق المسلمة من تشاد، لكن حكومة تمبلباي قامت بقمعها بشكل دموي وباعتقالات مكثفة جعلت المعارضين التشاديين يتجهون إلى الخارج في هجرة نحو الخارج لمعارضة النظام، وكان أبرز الذين خرجوا إبراهيم أباجا، ومحمد الباقلاني.
جاءت الفرصة للمعارضة التشادية بعد تغيير النظام في السودان بثورة أكتوبر 1964م حيث استفاد المعارضون من حالة السيولة التي كانت تمر بها الدولة السودانية ليدشن المعارضون التشاديون من مدينة نيالا السودانية جبهه التحرير الوطني التشادي (فرولينا) عام 1966م، بزعامة إبراهيم أبجه تحت مجموعة من الشعارات؛ القضاء على الاستعمار الفرنسي، ومساندة حركات التحرر في جميع بلدان العالم وعلى رأسها حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وجعل اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة، ومن هذه الشعارات يظهر التأثر الواضح بالخطاب الناصري والثورة الجزائرية؛ فتدخلت فرنسا وقامت بقتل زعيم الثورة التشادية إبراهيم أباجا، وتمزق فارولينا على أسس قبلية وعرقية وكادت أن تندثر.
حتى استولى القذافي على الحكم عام 1969م في ليبيا عندها انتقل العمل التشادي المسلح من السودان إلى ليبيا، حيث كان العقيد القذافي يغدق الأموال على ثوار فارولينا؛ وهو ما أربك فرنسا فضغطت على تمبلباي للحوار مع العقيد الليبي وتقديم تنازلات ليتوقف عن دعم المعارضة التشادية، فقدم تمبلباي تنازلات للقذافي تضمنت تسليم مثلث أوزو (المتنازع عليه) إلى ليبيا والاعتراف باللغة العربية واستقبال الملك فيصل بن عبدالعزيز وقطع العلاقات مع «إسرائيل» بسبب احتلالها أراضي دولة أفريقية (سيناء المصرية)، وأعاد القذافي استخدام المعارضة التشادية في مواجهة أعدائه الإقليميين فتم استخدام المعارضة التشادية في أحداث عام 1976م في السودان باسم أحداث المرتزقة التي هزمها نظام جعفر نميري.
ودخلت المنطقة تحولاً كبيراً بعد توقيع مصر لاتفاق «كامب ديفيد»، فقد كان هناك صراع إقليمي بين النظام المصري والسوداني، وتقف معهما فرنسا وأمريكا والنظام الليبي، ويقف خلفه الاتحاد السوفييتي، وتشرذمت المعارضة الشمالية (المسلمة) بين الطرفين، فكانت مصر والسودان يدعمان مليشيات حسين حبري، بينما كانت ليبيا القذافي تدعم مليشيات جوكوني عويدي، وأصيل أحمد أغبش.
ورغم أن جوكوني عويدي استطاع الوصول إلى رئاسة تشاد من خلال الحرب الأهلية، فإن حكومته لم تصمد تحت الضغوط الفرنسية الأمريكية عبر السودان ومصر لينهار نظامه على يد حسين حبري الذي تتبع كل مؤيدي جوكوني، وأغبش، وليطرد ملايين التشاديين نحو ليبيا والسودان والنيجر.
وقد استغل القذافي هذه المليشيات في قوات ما عرف باسم «الحرس الأخضر» ومحاولة الاعتداء على الحدود المصرية بعد اتفاقية «كامب ديفيد»، من جانب آخر فإن القذافي انتقاماً من فرنسا ظل يدعم كل حركات المعارضة لإسقاط حكم حبري الذي لم يصمد سوى 8 سنوات ليسقط ويتولى الحكم إدريس ديبي.
ومن جانب آخر دعم القذافي جبهة تحرير أزواد في شمال مالي بما يضر المصالح الفرنسية بسبب دعم فرنسا للمعارضة الليبية، وانطلق الجيش المالي يرتكب المجازر في حق الطوارق والعرب والفولاني، وهؤلاء يهاجرون إلى ليبيا بأعداد كبيرة، وكان القذافي يستوعبهم ضمن مؤسسات الدولة الليبية؛ فأسس القذافي قوات ما يعرف باسم «الفيلق الإسلامي» من العمال المهاجرين إلى ليبيا من شبه القارة الهندية، بالإضافة إلى طوارق مالي والنيجر وعرب تشاد ومالي وزغاوة تشاد ومجموعات من الصحراء الغربية، وبدأ يفكر بالاستغناء عن الوحدة مع الدول العربية بالتوحد مع دول الساحل الليبي؛ فأطلق العقيد الليبي مشروع «الساحل والصحراء»؛ وهو المشروع الذي اعتبرته فرنسا تهديداً لها، وكشفت الرسائل المسربة من بريد وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كلنتون أن فرنسا تدخلت في ليبيا بسبب مشاريع القذافي في أفريقيا مثل مشروع «الساحل والصحراء» ومشروع «الدينار الأفريقي».
ولذلك، فإن القذافي عندما كان يهدد العالم بأن معه الملايين فإنه على حق لأنه جنَّد أغلب قبائل الصحراء الكبرى لصالح مشروعه، وباتت مكونات الصحراء الكبرى في حالة توحد كامل بمشروع مصير عندما يُضرب أهالي مالي يفزع التشاديون لنصرتهم، وعندما يُضرب أهل النيجر يفزع الليبيون لنجدتهم؛ لذلك فإن «الناتو» لو لم يتدخل لكان القذافي بلا شك قادراً على سحق الثورة الليبية، خصوصاً أن أهل بنغازي تحدثوا عن استعانة القذافي بمليشيات أفريقية من دول الساحل لقمع الاحتجاجات عام 2011م.
بمجرد إعلان الحرب في السودان في أبريل 2023م، شاهد السودانيون أعداداً كبيرة من مرتزقة من دول الساحل الأفريقي تشاد والنيجر ومالي وليبيا جاؤوا لنصرة «الدعم السريع»، وهم الآن موجودون في جميع جبهات القتال ضد الجيش السوداني الذي يكرر في كل مرة أنه يواجه غزواً متعدد الجنسيات من مليشيات قادمة من الصحراء دعماً لـ«قوات الدعم السريع».
لقد استغلت «الدعم السريع» ثورة ديسمبر من أجل محاكاة مشروع القذافي، وقام حميدتي بتجنيد المهاجرين غير الشرعيين في قواته لتضم الإثيوبيين والكينيين والصوماليين بالإضافة إلى مقاتلي الصحراء الكبرى، مستغلاً طلب الاتحاد الأوروبي منه احتجاز المهاجرين وعدم إرسالهم إلى أوروبا ليؤسس جيشاً جراراً ليقوم به بحكم السودان.
ذكر الباحث جيروم توبيانا في كتاب «حرب تشاد السودان بالوكالة» معلومة مهمة عن الرزيقات الماهرية الذين ينتمي إليهم حميدتي، فقال: إن زعيمهم القوي عبدالكريم النضيف عام 1983م تعرض لاضطهاد كبير من الرئيس التشادي السابق حسين حبري مات بسببه في السجن من جراء التعذيب؛ ما تسبب في هجرة أولاد منصور أحد أفخاذ الماهرية إلى ضواحي نيالا جنوب دارفور السودانية، واستقروا بها، ويعتبر أشهرهم جمعة دقلو، عم «قائد قوات الدعم السريع» السودانية محمد حمدان دقلو (حميدتي).
ويبدو أن البشير خلال أزمة دارفور حاول محاكاة القذافي من أجل سحق المعارضة، وعمل حرساً خاصاً أطلق عليه «قوات الدعم السريع»، لكن الخطة انقلبت عليه وبالاً وانقلب السحر على الساحر.
إن مشروع حميدتي امتداد لمشروع القذافي، والمشروعان يقومان على استغلال مظلومية شعوب الصحراء الكبرى من أجل استخدامهم كمقاتلين مرتزقة، وفرنسا في المرتين لم تكن تمانع لأنها نظرت إلى شعوب شمال دول الساحل عبئاً عليها ومناطق ترفض الاندماج في الفرنكفونية وداعمة للإرهاب والقومية العربية على عكس شعوب جنوب دول الساحل الأكثر تقبلاً للنفوذ الفرنسي والثقافة الفرنسية.
لكن التحدي الذي يواجه حميدتي مختلف، ففرنسا التي كانت ضد الأقليات العربية والطوارق والفولاني غيرت تموضعها بعد ظهور روسيا على الساحة الأفريقية وتحالفها مع جيوش تشاد والنيجر ومالي تحت شعارات القومية الأفريقية؛ لذلك فإننا نرى هذا التواطؤ الدولي مع الحرب في السودان التي يراد منها أن تكون ساحة لتدريب «الإرهابيين» وإعادة إطلاقهم نحو دولهم لزعزعة المصالح الروسية مثل ما حصل مع الفيلق الأفريقي الروسي في مالي منذ عدة أسابيع.