فتحت عملية «طوفان الأقصى» الباب على مصراعيه أمام أزمات وكوارث للكيان الصهيوني لم ولن تتوقف خلال الوقت الراهن فحسب، بل ستمتد آثارها الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية إلى آماد طويلة، وهو ما كشفت عنه وسائل إعلام عبرية عدة طيلة الأشهر العشرة الماضية من خلال أرقام تثير قلق الكيان القائم على فكرة «الهجرة» في الأساس.
بين فترة وأخرى، تخرج علينا هذه الوسائل لتؤكد أنه من بين الأزمات والمشكلات الاجتماعية التي ستتكبدها «إسرائيل» على مدى طويل، هي آثار ونتائج الهجرة العكسية، إذ لا ترغب نسبة كبيرة من «الإسرائيليين» منها في عدم العودة إلى الكيان الصهيوني مرة أخرى؛ فقد أفادت القناة الـ«12» العبرية في تقرير مطوَّل لها بارتفاع عدد الصهاينة الذين غادروا «إسرائيل»، بشكل دائم، بعد أحداث السابع من أكتوبر الماض؛ إذ نقلت عن مكتب الإحصاء المركزي «الإسرائيلي» زيادة نسبة الهجرة الدائمة بين «الإسرائيليين» إلى 285% في الفترة من أكتوبر 2023 إلى مارس 2024م، مقارنة بالفترة نفسها من السابق، وذلك على خلفية عملية «طوفان الأقصى».
في تعليله لهذه الزيادة، أكد المركز الصهيوني أنه في الشهر التالي لاندلاع الحرب على غزة، غادر 30 ألف «إسرائيلي» البلاد، بشكل دائم، ما يمثل انخفاضاً بنسبة 14% عن الفترة نفسها من العام السابق، فضلاً عن انخفاض بنسبة 21% في عدد «الإسرائيليين» العائدين من الخارج، مع عودة 8898 إلى «إسرائيل» بين أكتوبر 2023 ومارس 2024م، مقارنة بـ11231 في العام 2022م.
زيادة نسبة الهجرة بين «الإسرائيليين» إلى 285% في الفترة من أكتوبر 2023 إلى مارس 2024م
تأثير حاد
الواضح أن نشر هذه الأرقام وتلك الزيادة المطردة في أعداد المهاجرين دون عودة، تعد من المرات النادرة التي يكشف فيها الكيان الصهيوني عن مثل تلك الأرقام؛ ما يؤكد حجم التأثير الحاد الذي خلَّفه هجوم السابع من أكتوبر داخل المجتمع «الإسرائيلي»، فضلاً عن السياسات المتطرفة واليمينية لحكومة بنيامين نتنياهو التي أصبحت تدفع أعداداً كبيرة من «الإسرائيليين» إلى مغادرة البلاد؛ خاصة أن تقرير مكتب الإحصاء المركزي قد قضى بزيادة عدد الصهاينة المغادرين بلادهم إلى الخارج في الأشهر التي سبقت الحرب، في ظل الاحتجاجات الحاشدة التي طالت خطة الحكومة للإصلاح القضائي، فقد سجلت «إسرائيل» زيادة بنسبة 51% في الفترة من يونيو إلى سبتمبر 2023 مقارنة بعام 2022م، وهي ذروة الاحتجاجات الداخلية ضد خطة نتنياهو للإصلاح القضائي.
الغريب أنه على خلفية تلك الزيادة المطردة في أعداد المهاجرين دون عودة، اقترحت الحكومة الكندية على المواطنين «الإسرائيليين»، الهجرة إليها، على خلفية التصعيد الجاري في الجنوب بقطاع غزة، وفي الشمال مع «حزب الله» اللبناني، أيضاً؛ فقد عرضت كندا منح «الإسرائيليين» تأشيرة عمل أو دراسة بشكل مؤقت لمدة 3 سنوات؛ إذ نقل الموقع العبري «واللا» عن مواطنة صهيونية هاجرت إلى كندا، في العام 2019م، تدشينها لموقع إلكتروني لمساعدة الصهاينة الراغبين في الهجرة الفعلية إلى كندا، مؤكدة انتقال آلاف «الإسرائيليين»، فعلياً، منذ بدء عملية «طوفان الأقصى» إلى كندا، متوقعة وصول مئات العائلات الأخرى إلى كندا، بعد تمديد إمكانية الحصول على تأشيرة لمدة عام.
فقدان الأمان
والثابت أن أرقام الهجرة العكسية من الكيان الصهيوني على الواقع تفوق ما يتم الإعلان عنه من قبل مراكز الإحصاء في «تل أبيب»، بعد تقدير بعض المحللين بأن هذه الأعداد تتخطى المليون شخص، حيث لا تفصح «إسرائيل» عن الأرقام الحقيقية، مثلها كعدد الضباط والجنود الذين يسقطون قتلى خلال الحرب على غزة، فتبقى هذه الأرقام طي الكتمان وكأنها أسرار حرب، خاصة إذا قلنا: إن عدد «الإسرائيليين» الذي يمتلكون جواز سفر فرنسياً ارتفع بـ45%، وهذا كله نتيجة لافتقاد الداخل الصهيوني للشعور بالأمان والثقة.
الوضع الأمني المتردي وافتقار المستوطنين الثقة بالحكومة قد يدفع بحوالي 62% مغادرة «إسرائيل»
السبب نفسه أكده موقع «ALL JOBS» العبري، في 18 يوليو الماضي، من أن الوضع الأمني المتردي في الكيان وافتقار المستوطنين للشعور بالثقة في حكومة بلاده وعدم شعورهم بالأمان في «إسرائيل»، قد يدفع بحوالي 62% من الصهاينة للتفكير في مغادرة «إسرائيل»، حيث لفت الموقع نفسه إلى أن هذا الرقم مثير للدهشة نتيجة لما أسماه بالكارثة الأمنية والاجتماعية التي يمر بها الكيان منذ السابع من أكتوبر الماضي، في ظل تزايد التضخم وارتفاع تكلفة المعيشة في البلاد.
وفي الوقت نفسه، أكدت صحيفة «يسرائيل هايوم» العبرية، في 31 يوليو الماضي، أن الكيان استقبل 46 ألف مهاجر جديد فقط في العام 2023م؛ ما يمثل انخفاضاً بنسبة 38% عن العام السابق، مع ملاحظة التراجع الحاد في أعداد المهاجرين إلى «إسرائيل»، حيث وصلها 1600 مهاجر في الفترة بين أكتوبر إلى ديسمبر 2023م، وانخفاض العدد خلال النصف الأول من عام 2024م، بعد وصول حوالي 2700 مهاجر شهرياً، وهو عدد قليل نسبياً، مقارنة بالأعوام الماضية، بمعنى أن هناك حالة من التسارع في وتيرة الهجرة العكسية وإحجام كبير عن الهجرة إلى «إسرائيل»؛ وذلك كله نتيجة لاشتداد عود المقاومة في قطاع غزة.
تلك المقاومة التي أجبرت عشرات الأطباء النفسيين الصهاينة على الهجرة إلى بريطانيا دون رجعة، وهو ما أكدته صحيفة «هاآرتس» العبرية، في 31 ديسمبر الماضي، يعني أثناء دوران عجلة الحرب على غزة، رغم تزايد الطلب «الإسرائيلي» على المساعدة في مجال الصحة النفسية في ظل الحرب، بالتوازي مع إشارة الصحيفة إلى أن قطاع الصحة النفسية في «إسرائيل» يعاني نقصاً حاداً في الأطباء النفسيين، منوهة إلى أنه يوجد في «إسرائيل» طبيب نفسي واحد في الخدمة العامة لكل 11705 من «الإسرائيليين».
الداخل الصهيوني في مرحلة تآكل وهشاشة والمقاومة نجحت في تأجيج الخلافات الداخلية
خطر وجودي
قرار الهجرة العكسية وانتقال الصهاينة للحياة في الخارج لم يعد إلى الاضطرابات السياسية داخل الكيان الصهيوني أو لفساد حكومة نتنياهو، وإنما للصراع طويل الأمد في المنطقة والتخوفات من استهدافات فصائل المقاومة الفلسطينية ككل لكل ما هو صهيوني؛ وهو ما يتوافق مع القلق الوجودي من استمرار دولة «إسرائيل» نفسها على الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث أشار رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق إيهود باراك إلى بعض المعتقدات اليهودية التي تتحدث عن زوالها عند اكتمال العقد الثامن مثلما حدث في الممالك اليهودية السابقة.
الغريب أن تصريح باراك تزامن مع افتتاحية صحيفة «هاآرتس» العبرية في 7 يونيو الماضي، من أن السقوط النهائي للكيان الصهيوني مسألة وقت، لقد بدأ العد التنازلي، بدعوى تفشي حالة التوحش والافتتان بقوة التوحش والتطرف والعنف والإرهاب من قبل «الحريديم»، التي زادت خلال الفترة الماضية؛ وهو ما أكده إيهود أولمرت، رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق أيضاً، حينما صرح بأن الخطر الأكبر الذي يهدد وجود «إسرائيل» هو التأثير المتزايد للتطرف اليهودي؛ بمعنى أن الداخل الصهيوني في مرحلة تآكل وهشاشة، والمقاومة الفلسطينية نجحت في تأجيج الخلافات الداخلية التي دفعت بدورها إلى الهجرة العكسية.