د. ناجي عبدالرحيم (*)
استهلال ما قبل الاستدلال
في زحمة المآسي التي تملأ هذا العالم، وفي الوقت الذي تشدنا فيه غزة بملحمة صمود وصعود، ترفع بنغلاديش صوتها في الظل، متجاوزةً حدود الصمت الذي فرضه العالم عليها، بنغلاديش التي تراقب من بعيد، قد استوعبت دروس الربيع العربي التي أسقطت جحافل الثورات المضادة، وقررت أن تكمل المشوار على طريقتها الخاصة، فما يحدث في شوارعها ليس مجرد انتفاضة، بل هو إعلان ولادة جديدة، في قلب بنغلاديش، تشتعل ثورة تتوهج كالشمس في لحظة شروق، تعلن حكومة انتقالية، وتعلق قادة الجيش في الشوارع كأنها تزرع بذور الحرية في تربة طالما ارتوت بدماء الأبرياء.
إنها قصة أمة لم تكتفِ بالصبر، بل اختارت أن تتحرك كالنهر الذي يحفر مجراه عبر الصخور الصماء، لتشق طريقها نحو النور، مثقلة بإرث دولة كأنها شجرة عتيقة جذورها عميقة في أرض مليئة بالآلام، وأغصانها تمتد نحو سماء ملبدة بالغيوم، تبحث عن شعاع من الشمس ليمدها بالحياة، بين هذه الأغصان المتشابكة، تتصارع قوى الماضي والحاضر، لكن بين هذا الصراع، ينبثق الأمل كنجم بعيد يهدي التائهين في ظلمات الليل الدامس.
هذه الدراسة ليست مجرد سردٍ للأحداث، بل هي محاولة لفهم هذا التموج المستمر بين الألم والأمل، عبر تأصيل تاريخي، علمي، وعملي لمسارات التحول، سعياً لرسم خريطة للخروج من هذه المتاهة، نحو مستقبل يحمل في طياته وعداً بحياة أفضل، يكتب فيها شعب بنغلاديش فصلاً جديداً من تاريخه، بحبر من إرادة لا تُقهر ودماء الشهداء التي تروي جذور الحرية.
التأصيل التاريخي للصراع.. جذور الألم والأمل
بدأت قصة بنغلاديش عندما نالت الهند استقلالها عن بريطانيا في عام 1947م، مما أدى إلى تقسيم شبه القارة الهندية إلى دولتين: الهند، ذات الأغلبية الهندوسية، وباكستان التي كانت تضم شطرين جغرافيين غير متصلين: باكستان الغربية وباكستان الشرقية، بالرغم من أن كلا الشطرين كانا يجتمعان تحت راية الإسلام، فإن الفوارق الثقافية والسياسية بينهما كانت شاسعة، فقد تمتعت باكستان الغربية بالقوة والسلطة واحتكرت الثروة، في حين تعرضت باكستان الشرقية للتهميش والإهمال.
في عام 1970م، تصاعدت حدة الاستياء في باكستان الشرقية، مما أدى إلى ظهور حركة سياسية بقيادة حزب رابطة عوامي وزعيمه مجيب الرحمن، الذي حقق فوزًا كبيرًا في الانتخابات البرلمانية، إلا أن الحكومة الباكستانية رفضت الاعتراف بنتائج الانتخابات، مما أدى إلى اندلاع حرب الاستقلال، هذه الحرب كانت لحظة حاسمة في تاريخ بنغلاديش، حيث قدم الشعب البنغالي تضحيات كبيرة من أجل نيل حريته، وانتهت بتدخل الهند العسكري الذي ساهم في استقلال بنغلاديش في عام 1971م تحت قيادة مجيب الرحمن.
لكن الأمل الذي أشرق مع ولادة بنغلاديش لم يدم طويلاً، ففي عام 1975م، تعرض مجيب الرحمن وعائلته للاغتيال في انقلاب دموي، مما أدى إلى سلسلة من الانقلابات والصراعات على السلطة، بعد ذلك، تولى الجنرال ضياء الرحمن الحكم، وفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد، لكنه أدخل بنغلاديش في مسار مختلف تمامًا عن نهج مؤسس الدولة، مما زاد من تعقيد المشهد السياسي وأدى إلى تعميق الانقسامات الداخلية.
الواقع السياسي والاجتماعي.. تحالفات مدمرة وطبقية متجذرة
في التسعينيات، انتهت حقبة الانقلابات العسكرية وبدأت فترة من الديمقراطية الشكلية في بنغلاديش، تنافست خلالها زعيمتان بارزتان: الشيخة حسينة، ابنة مؤسس الدولة مجيب الرحمن، وخالدة ضياء، أرملة الجنرال ضياء الرحمن، كانت الديمقراطية في بنغلاديش بعيدة عن العدالة الحقيقية، حيث أصبحت الانتخابات والقرارات السياسية وسيلة لتصفية الحسابات الشخصية والسياسية بين الأطراف المتنازعة، بدلاً من أن تكون أداة لتحقيق تطلعات الشعب البنغالي.
على الصعيد الاقتصادي، كانت بنغلاديش تعاني من تحالفات معقدة بين النخب الحاكمة والقوى الدولية، هذه التحالفات حولت البلاد إلى مركز لصناعات تعتمد على العمالة الرخيصة، مثل صناعة الملابس التي تعتمد بشكل كبير على استغلال العمالة البنغالية، حادثة انهيار مصنع “رانا بلازا” في عام 2013م، والتي أودت بحياة أكثر من 1300 عامل، كشفت عن الوجه المظلم للنظام الاقتصادي الذي يخدم مصالح النخب على حساب الفقراء، هذه الحادثة سلطت الضوء على التحديات الهائلة التي تواجهها بنغلاديش في سعيها لتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وعادلة.
التأصيل العلمي لمسارات التحول.. بين الفوضى الخلاقة والقيادة الرسالية
تاريخ الثورات والتغيرات الاجتماعية والسياسية يظهر أن التحولات العميقة لا يمكن أن تحدث إلا من خلال قيادة رسالية تمتلك رؤية واضحة وقيمًا ثابتة، في بنغلاديش، يطرح السؤال نفسه: هل يمكن لحركة طلابية أن تقود البلاد نحو التغيير المنشود؟ التجارب التاريخية في السودان وأوروبا الشرقية تظهر أن القيادة المستنيرة يمكن أن تقود تحولًا سلميًا ناجحًا، بشرط أن تحظى بدعم من مؤسسات الدولة وأجهزة الاستخبارات.
الفوضى الخلاقة قد توفر فرصة لإعادة تشكيل النظام السياسي في بنغلاديش، ولكنها تحمل في طياتها مخاطر الانزلاق إلى فوضى غير خلاقة، كما حدث في مصر بعد ثورة 2011م، حيث أدت التحولات السريعة والتغيرات غير المحسوبة إلى انقلاب عسكري في 2013م أعاد البلاد إلى نقطة البداية، وعليه يمكننا التأكيد على أنه إذا لم تتمكن القيادة الطلابية من الحصول على دعم كافٍ من القوى الثورية ومنظمات المجتمع المدني المحلية والإقليمية والدولية والأممية، فقد تواجه الثورة تحديات كبيرة قد تعيق تحقيق أهدافها، وتجعل التدخلات الخارجية قوى ضاغطة نحو مصلحة الأطراف المجاورة، والمهيمنة على الدولة منذ الانقلاب على المؤسس.
التأصيل العملي لمسارات التحول.. بناء المستقبل وسط الأنقاض
إن مستقبل بنغلاديش يعتمد بشكل كبير على قدرتها على تحويل الفوضى إلى قوة دافعة للتغيير الإيجابي، لتحقيق ذلك، يجب على القوى الثورية بناء تحالفات قوية تضم مختلف فئات المجتمع البنغالي، وتوجيه الحراك الشعبي نحو أهداف واضحة ومحددة، تحتاج بنغلاديش إلى قيادة ملهمة تستلهم من التجارب السابقة، وتدرك أن التحول الديمقراطي الحقيقي يتحقق فقط من خلال بناء مؤسسات قوية قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
فالتحدي الأكبر الذي تواجهه بنغلاديش يكمن في جذب دعم داخلي من الجيش، وخلق تحالفات استراتيجية مع القوى الدولية لضمان عدم انحراف الثورة عن مسارها الصحيح، إذا استطاعت القيادة الطلابية تشكيل حركة شاملة تجمع مختلف فئات المجتمع، وتوجيه الفوضى نحو بناء دولة قوية ومستدامة، فإن بنغلاديش قد تكون قادرة على تحقيق مستقبل أكثر إشراقًا.
استدلال بنماذج ملهمة من التاريخ
– نموذج جنوب أفريقيا: تجسد نيلسون مانديلا رمزًا للثورة السلمية التي استطاعت التغلب على عقود من التفرقة العنصرية، من خلال قيادته الملهمة، استطاع مانديلا توحيد شعبه وبناء وطن ديمقراطي جديد، مما يؤكد أهمية القيادة الرشيدة في تحقيق التحولات الاجتماعية والسياسية العميقة.
– النموذج التونسي: يمثل الثورة التونسية نموذجًا ناجحًا للانتقال السلمي نحو الديمقراطية، حيث تمكن الشعب التونسي من الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في عام 2011، دون تدخلات خارجية سلبية، وأدار الشباب والأحزاب السياسية حوارًا وطنيًا لبناء مؤسسات جديدة وتحقيق الاستقرار، لولا انقلاب قيس وزمرته الفاسدة على إرادة الشعب العظيم.
– نموذج الثورة المصرية: الثورة المصرية في عام 2011 أظهرت كيف يمكن للحركات الشبابية أن تقود التغيير، ورغم التدخلات التي أدت إلى انقلاب عسكري في 2013م، إلا أن هذه الثورة أظهرت القوة الكامنة في الحركات الشعبية عندما تكون مدفوعة برؤية واضحة وأهداف مشتركة جسدها إرادة شعب في صناديق انتخاب رئاسة، وبرلمان ومجلس شورى ودستور.
إعلان الحكومة المؤقتة.. مرحلة جديدة في مسار الثورة
إعلان الحكومة المؤقتة في بنغلاديش، برئاسة الحائز على جائزة «نوبل» للسلام د. محمد يونس، الذي أدى اليمين الدستورية بعد أيام من سقوط حكومة الشيخة حسينة، ما هو إلا نتاج فوضى خلاقة، ونجاح لثورة شعبية حقيقية، تضم الحكومة المؤقتة فريقًا من 17 عضوًا تم اختيارهم بعناية للمساهمة في استقرار البلاد خلال هذه المرحلة الانتقالية، وبعد تأكيد رئيس الحكومة الانتقالية على أهمية الوحدة الوطنية والعمل المشترك لتحقيق الاستقرار في البلاد، وإشارته في الخطاب إلى أن جميع أبناء بنغلاديش هم بمثابة عائلة واحدة، وأن الحكومة المؤقتة تسعى للعمل على إزالة التوترات والاختلافات من أجل مستقبل مشترك، يشير إلى أن التركيز سيكون على تشكيل حكومة قادرة على التعامل مع التحديات الحالية.
هذا الحدث يمثل بداية مرحلة جديدة في السياسة البنغالية، مع توقعات كبيرة من المجتمع الدولي والمحلي حول قدرة الحكومة المؤقتة على قيادة البلاد نحو استقرار طويل الأمد.
في كلمات
كما ترتسم الشمس خلف الأفق بعد ليلة طويلة، وكما يتلمس العشب طريقه نحو النور عبر شقوق الصخور الصلبة، تظل بنغلاديش بحاجة إلى رؤية ثاقبة تقودها نحو مستقبل أكثر إشراقًا، إن التحول المنشود ليس حلمًا بعيد المنال، بل هو واقع يمكن تحقيقه بقيادة مستنيرة، تستطيع أن تجعل من الفوضى قوة دافعة للتغيير، وأن تصوغ من آلام الماضي وقودًا لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، فبين أشواك التحديات تكمن بذور الأمل، وبين ضجيج الصراع تلوح في الأفق فرصة لكتابة فصل جديد في قصة هذه الأمة، فصل يحمل بين طياته وعدًا بمستقبل يتجاوز كل ما مر به الشعب البنغالي من مآس، ليكتب بحروف من نور تاريخًا جديدًا، يكون فيه الحق والعدالة هما العنوان الأبرز.
__________________________
(*) خبير إدارة المشروعات وسلاسل الإمداد.