إن استعادة فعالية القرآن في واقع الأمة لا يمكنه أن يتم بصورة اجتهاد فردي، أو جهود مبعثرة، على الرغم من قيمة هذا الجهد خلال فترة الضعف الحضاري كالتي تعيشها الأمة، لكن هذا النوع من الجهود يظل محصورًا من حيث الكم والكيفية ولا يستطيع أن يحقق غاية القرآن في الأرض ولا بين المؤمنين به، باعتباره كتاب هداية للإنسان.
لذا يأمل كاتب هذه السطور أن تنصهر جهود العاملين المخلصين في الأمة وفي كل قُطر من أقطارها في عمل جماعي مجتمعي مؤسسي علمي، يكون شعاره «القرآن من الله وإليك»، من خلال تأسيس لجامعة قرآنية مجتمعية، يتخلل عملها كل قُطر وكل مدينة وكل قرية وكل نجع وكل شارع فيها، حتى يصل القرآن إلى مستحقيه أو المرسل إليهم بالطريقة التي جاء بها، بعيدًا عن شذاذ الآفاق، وشذوذ العمل والتصور والتفكير، وانحراف الاتجاهات التي غمت على الأمة وعميت على بصائرها.
ونشير فيما يلي إلى الأطر العامة لهذه الفكرة والمبادئ الكلية التي نرى أنها تصلح للبناء عليها، من خلال دعوة علماء الأمة ومفكريها ومصلحيها وأصحاب الغنى فيها إلى التفكير والتأمل لاستعادة حضور القرآن في واقع الأمة وحياة أفرادها ومؤسساتها ولوائحها وقوانينها وبرامجها الثقافية والتعليمية والعلمية.
وذلك من خلال تأسيس بناء فكري اجتماعي تعليمي ثقافي سميناه «جامعة القرآن المجتمعية»، ونشير فيما يلي إلى أهم تصورات هذه الجامعة النظرية ومكوناتها الأساسية.
جامعة القرآن المجتمعية
القسم الأول:
التصورات الأساسية
أولًا: الرؤية:
المقصد الأعلى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ.
المقصد العملي: استئناف عمل القرآن كقانون للتغيير الحضاري الذي يبدأ من الفرد ثم إلى المجتمع والعالم.
المستهدفون: الناس، بكل فئاتهم وطبقاتهم الوضعية والاجتماعية وهم مستهدف القرآن ذاته.
الشعار: القرآن من الله وإليك.
ثانيًا: منهجية العمل وأهدافها (أو عمل المنهجية وأهدافه):
تتحدد أهداف عمل منهجية المشروع فيما يلي:
1-تجاوز معوقات الإنسان المعاصرة في الاتصال بالقرآن والتواصل معه.
2- تحقيق نموذج اتصال فعال بين الإنسان والقرآن كنموذج التلقي الأول في الفعالية والصالحية.
2- بناء نماذج للتغيير المجتمعي والحضاري (قدوات قرآنية) متجددة تنطلق من أصالة القرآن وتتفاعل مع العصر.
3- وصل الحاجات الإنسانية المعاصرة (العقلية، والنفسية، والعملية، والحضارية) بالاستجابة القرآنية الفاعلة.
4- استعادة روح القرآن في نفوس المسلمين وفي حركتهم ومقاصدهم.
5- تجديد قيمة القرآن وتجددها في حياة المسلمين.
ثالثًا: منطلقات/مبادئ أساسية:
ينطلق هذا المشروع من عدة مبادئ أساسية تمثل المرتكزات الفكرية أو الإطار الفكري لعمل باقي المكونات والوحدات، وتتمثل هذه المنطلقات فيما يلي:
1- وَحدة القرآن تناظر وَحدة النفس الإنسانية، فلا مجال للتواصل الجزئي مع القرآن، لأن ذلك يترتب عليه محدودية الثمرة والهداية.
2-إن القرآن هو استجابة إلهية للحياة الاجتماعية، بما يزيل عنها الفساد، ويصحح الأوضاع ويصلحها، فيجب أن يوضع في موضعه الحقيقي من الحياة الاجتماعية.
3- حقيقة القرآن جديدة دائمًا، ولا يتوافق القرآن مع الانطفاء أو الانزواء في ركن العالم والحياة الاجتماعية.
4- أفعال التقدم والتطوير والتحسين حقائق قرآنية، ودائمًا يرجح القرآن المستقبل عن الماضي (قدمت لغد، إليه المصير، ستردون، فملاقيه..)، وهو في ذلك يُشَرِّع التوبة من أجل إحداث تغيير فردي وجماعي وحضاري، ويذم الجمود والتوقف المخالف لفطرة الإنسان وسنة الكون.
5- إن غربة القرآن هي اتهام للمسلمين وليست للقرآن، فإن تعامل المسلمين هو الذي تخلف عن القرآن، ولم يتخلف القرآن عن الحياة وتجددها وتطويرها.
رابعًا: مقاصد تعليمية:
يسعى هذا المشروع إلى تحقيق عدة مقاصد تعليمية أهمها:
تشخيص صوارف التعامل الراشد مع القرآن، والعمل على مدافعتها علميًا وتربويًا وثقافيًا.
تهيئة الفرد المتلقي للقرآن، باعتباره الوحدة الأساس في مشروع القرآن.
العمل بالمنهجية المتكاملة: التعليم، التعلم الذاتي، المشاركة، التفاعل، الحوار والمناقشة، المشروعات، البحث العلمي، كل ما يمكن استخدامه تربويًا وتعليميًا لتحقيق غايات مشروع القرآن ومقاصده في واقع الأمة.
تحقيق الدمج النفسي والسلوكي والمعرفي والاجتماعي بين الفرد والقرآن على نماذجية النبوة؛ «كان خلقه القرآن»؛ أي طبعه وعاداته أي التمثل الكامل للقرآن.
خامسًا: قانون التغيير في القرآن:
نعتمد في هذا المشروع على قانون التغيير الذي جاء به القرآن، ويتحدد إطار هذا القانون في الشكل التالي:
ونتناول فيما يلي محددات عمل هذه الوحدات وفقًا للأطر والمنطلقات والمقاصد السابقة.
أولًا: وِحدة تعليم القراءة والتلاوة:
الهدف: تحقيق سلامة تلاوة القرآن وقراءته لدى المتعلم بحيث يكون قادرًا على النطق السليم والمتتابع لأي القرآن بما يحقق لاحقًا العناية بمعنى المنطوق والتأمل في أبعاده المعنوية والقيمية.
المستهدفون: المنتسبون والراغبون في تعلم قراءة القرآن وتلاوته.
الفترة الزمنية: ثلاثة أشهر بواقع 6 ساعات أسبوعيًا أي حوالي 72 ساعة.
النشاط المصاحب: تعليم، استماع، تدريب، تساؤلات، اختبارات، تفاعلي، تواصلي.
ثانيًا: وِحدة تدبر الآيات:
الهدف: تحقيق الاتصال بالمعنى بين المتعلم والقرآن -بعد تحقيق الاتصال بالنطق في المرحلة الأولى للتعلم- ويكون ذلك ببناء مداخل لتدبر القرآن وفهمه، والوقوف على مراد الله فيه، واكتشاف المعاني والقيم المتضمنة.
المستهدفون: كل الذين اجتازوا مرحلة تعلم القراءة والتلاوة، ومن في حكمهم.
الفترة الزمنية: مفتوحة غير محددة، بحسب الرغبة والاستزادة بحيث لا يقل التزام المتعلم في هذه الوحدة عن ثلاثة برامج لتدبر الآيات.
الأنشطة والبرامج: تقدم هذه الوحدة عددًا من البرامج التي تساعد المتعلم في اكتشاف مقاصد القرآن وهداياته منها:
1-برنامج أسماء السور القرآنية.
2- برنامج الشجرة القرآنية.
3- برنامج النماذج المعلمة(1)، أو غير ذلك مما يبدعه الباحثون والتربويون في هذه الوحدة.
ثالثًا: وِحدة ثقافة القرآن:
الهدف: اكتشاف أفكار القرآن التي تشكل شبكة علاقات الأفكار في المجتمع أو التي ينبغي أن تُكوّن عالم أفكار الأمة، وتتفرد بتمايزها عن الأفكار الوضعية، بحيث تكون موجهة للمجتمع ومقومة لاعوجاجه أو انحرافه:
مثال: أفكار عالم الإيمان، وأفكار عالم المرأة، وأفكار عالم الاقتصاد، وأفكار عالم السياسة، وأفكار فلسفة العلم، وأفكار عالم الحضارة.
أي: الوقوف على عالم أفكار الأمة، المستمد من القرآن، الذي يشكل بدوره عالم ثقافة المجتمع المسلم.
المستهدفون: عام، الباحثون في مجال الدراسات الاجتماعية، طلاب الجامعات والشباب عامة.
الفترة الزمنية: مفتوحة (لكن يشترط اجتياز المرحلتين السابقتين: تعلم القراءة، وتدبر الآيات).
النشاط والمنهجية: وعظي، بحثي، تعليمي، تعلمي، تواصلي مع المجتمع، مقارن.
رابعًا: وِحدة فنون القرآن:
الهدف: اكتشاف مجالات الفنون في القرآن، وإعداد فئة من المتعلمين، الذين تتواقف قابلياتهم واستعداداتهم، لتلقي هذه الفنون بالتعليم والممارسة والبحث، ومن تلك الفنون: الخط، الرسم، التمثيل، الموسيقى، الصوت، الزينة، التصوير.
المستهدفون: عام، أصحاب القابليات والاستعدادات الفنية، الباحثون والطلاب في الفنون الجميلة والخط العربي.
الفترة الزمنية: مفتوحة.
المنهجية والنشاط: تعليمي، تعلمي، بحث، تواصلي مع المجتمع، إبداعي، تشاركي، تفاعلي، جماعي، تلقائي، موجه، مقارن.
خامسًا: وِحدة آداب القرآن:
الهدف: اكتشاف مجالات الأدب في القرآن، وإعداد فئة من المتعلمين، الذين تتوافق قابلياتهم واستعداداتهم، مع هذه المجالات سواء بالتعلم أو البحث أو الإبداع فيها، ومن هذه المجالات الأدبية المتضمنة في القرآن: الرواية، القصة القصيرة، الكتابة، الشعر، المسرح، اللغة، وغير ذلك مما يمكن اكتشافه من خلال باحثين في مجال الأدب.
المستهدفون: عام، أصحاب القابليات والاستعدادات الأدبية.
الفترة الزمنية: مفتوحة.
المنهجية والنشاط: تعليمي، تعلمي، تواصلي مع المجتمع، تشاركي، تفاعلي، إبداعي، جماعي، تلقائي، موجه، مقارن.
سادسًا: وِحدة القرآن والمجتمع أو صوت القرآن:
الهدف: تحقيق تفاعل المجتمع المحلي مع القرآن، من خلال التواصل الفعال والتشاركي والموجه والمنظم والمخطط بين طلائع الوحدات (3)، (4)، (5) مع فئات المجتمع ومكوناته.
منهجية العمل:
– يقوم العمل في هذه الوحدة (6) على إيصال (صوت القرآن) إلى المجتمع المحلي (الصغير والكبير) في دوائر المتعددة: دائرة الطفولة، ودائرة الصبا، ودائرة الشباب، ودائرة المرأة، ودائرة المتخصصين، ودائرة العامة.
– إن هذه الوحدة (6) مؤشر نجاح العمل في باقي الوحدات، ودليل إتقانه مظهرها في المخرجات التي تضطلع بها هذه الوحدة إلى المجتمع.
– مهمة هذه الوحدة الرئيسة: تحويل القرآن إلى ثقافة شعبية تحكم شبكة العلاقات الاجتماعية، وأن يسري القرآن في برامج التعليم.
– وأن يمثل القرآن مرجعية فكرية للطلاب والشباب عامة والباحثين الجامعيين، سواء من خلال الارتباط المباشر بالمؤسسة، أو من خلال إشعاع المؤسسة للمجتمع بكافة عناصره وفئاته.
المستهدفون: كل المجتمع بحسب تفاعله مع القرآن وقدراته الفردية واستعداداته الخاصة والعامة، وبحسب الاستجابة للقابليات والاستعدادات.
الفترة الزمنية: مفتوحة.
المنهجية والنشاط: تعليمي، تعلمي، تواصلي، ثقافي، اجتماعي، تفاعلي، إبداعي، جماعي، موجه، تلقائي، مقارن.
_____________________________
(1) انظر: حسان عبد الله حسان: برامج تدبر القرآن، القاهرة، دار الفكر العربي، 2022.