تبدو المفارقة واضحة جلية بين الأثر الذي تركه القرآن الكريم في جيل الصحابة، والأثر الذي يتركه حالياً في نفوسنا، قد يقول قائل: ربما كان هذا التفاوت الرهيب بسبب وجود النبي صلى الله عليه وسلم بشخصه مع الصحابة وغيابه عنا، لكن ماذا عن الأجيال التي تلت جيل الصحابة من التابعين وتابعي التابعين وطيلة فترة ازدهار الحضارة الإسلامية وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها ولم يكن معهم كل هذه النسخ من المصاحف ولا كل هذه الكتب مجتمعة من السُّنة النبوية؟
لماذا لا يترك القرآن أثراً عميقاً في حياتنا على الرغم من أن الكثيرين يختمون قراءته العديد من الختمات كما يحدث في رمضان، وعلى الرغم من انتشار حلقات ومدارس تحفيظ القرآن في كل مكان؟
بمعنى آخر؛ ما الحلقة المفقودة في علاقتنا بالقرآن الكريم التي تحول بيننا وبين الآثار الحيوية التي يتركها في أنفسنا وفي كل مناحي حياتنا؟
هذا السؤال محوري لا يمكن تجاوزه عند جميع العلماء والمفكرين والباحثين المعنيين بقضية النهضة، ويكاد الإجماع ينعقد على أن هذه الحلقة المفقودة هي تدبر القرآن الكريم ومن ثم العمل التطبيقي بهذا التدبر، وهو ما كان يحدث بشكل تلقائي في جيل الصحابة ومن تلاه من الأجيال الفاضلة، الانطلاق في الحياة بناء على تدبرهم للآيات التي كانوا يستشعرون أنها تخاطب كلاً منهم بشكل خاص.
عن التدبر
يعد الاستماع والقراءة الصحيحة للقرآن الكريم ومراعاة أحكام تلاوته القاعدة الأساسية لصلة المسلم بالقرآن الكريم، وفهم ألفاظه، والمعنى المبسط للآيات الخطوة الثانية الأساسية في عصر أصبحت اللغة العربية فيه غريبة، وحفظ آياته الإنجاز الأضخم في شتى بقاع العالم الإسلامي سواء في المدارس الإسلامية أو في دور التحفيظ ولجميع المراحل العمرية.
ربما كانت هذه هي العلاقة السائدة بين المسلم العادي المعاصر والقرآن، أما الباحثون والمتخصصون فإنهم يهتمون بالتفسير، وكثيراً ما يكون ذلك على سبيل الدراسة العلمية.
وبالطبع لم يخل عصر من محاولات التدبر سواء بشكل فردي أو جماعي، لكن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن هناك تياراً كبيراً معاصراً يتشكل يريد لتدبر القرآن أن يحتل مكانته اللائقة ويشغل حيزاً ملموساً في حياة المسلم بعد القراءة الصحيحة والفهم لمعاني المفردات.
والحقيقة أن التدبر يختلف عن التفسير، فالمسلم العادي يستطيع تدبر القرآن بعد فهمه لمعاني الكلمات الصعبة أو بعد قراءة لتفسير مختصر للغاية، بينما التفسير علم ضخم لا يستطيع القيام به إلا نخبة مميزة من العلماء، كما أن التدبر يرتبط به بطريقة لازمة التطبيق والعمل أو الحركة، بينما التفسير يعتمد على التأمل والنظر والبحث.
نماذج معاصرة
انتشرت العديد من الأكاديميات والمراكز الإسلامية المبشرة التي تسعى لإعادة الاعتبار للتدبر في حياة المسلم الذي هو الغاية من إنزال القرآن الكريم؛ (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (ص: 29)، ومن أهم هذه المراكز مركز المنهاج للإشراف والتدريب التربوي الذي قدم برنامجاً متكاملاً لتدبر القرآن، وقام بإصدار كتاب «القرآن تدبر وعمل»، وهو كتاب بعدد صفحات المصحف، وعلى هامش كل صفحة يوجد:
– معاني الكلمات الصعبة.
– الوقفات التدبرية؛ وهي عبارة عن تفسير بسيط للآية من إحدى أمهات التفسير (اعتمد الكتاب على 16 تفسيراً) ولا تزيد الوقفات التدبرية للآية على 3 وقفات، الإضافة الرائعة التي يقدمها الكتاب هي إضافة سؤال على كل وقفة تدبرية، السؤال بسيط لكنه غاية في الأهمية لكي يعمل الإنسان عقله في الآية ويتدبرها.
– العمل بالآيات؛ فالتدبر يلحقه العمل، وهذه هي منهجية الكتاب من أجل تدريب القارئ على رتبة العمل بالقرآن الكريم؛ حيث يتم اقتراح 3 أعمال تطبيقية مستنبطة من آيات الصفحة.
– التوجيهات؛ حيث يذكر 3 توجيهات عامة مستقاة من آيات الصفحة سواء كانت تربوية أو عقدية أو فقهية، بحيث تكون قراءة هذه التوجيهات بمثابة تدريب على تحصيل المهارة التدبرية بطرق متنوعة.
هذا المشروع التدبري العظيم الذي موله وقف خيري هو نتاج جهد جماعي لمجموعة من الباحثين والعلماء النابهين، وهذا المنهج محكم من عدد من أساتذة الجامعات المتخصصين في القرآن وعلومه.
لم يكتف القائمون على المنهج بوضع الكتاب، وإنما قدموا منهجية شاملة للتدريب عليه بطريقة بالغة المرونة، فهناك منهجية فردية لمن لا يستطيع الالتحاق بالحلقات الجماعية، وأخرى مخصصة لدور وحلقات التحفيظ والمدارسة ونحو ذلك، ويقترح أن تقوم المؤسسات التعليمية بتقويم الدارسين عن طريق وضع الدرجات.
ومن الجدير بالذكر أنه يوجد بالموقع الإلكتروني الخاص بالمركز دليل إرشادي للاستفادة القصوى من مشروع «القرآن تدبر وعمل»، ومهارات التدريب التطبيقي عليه، فهذا المشروع يتجاوز إصدار كتاب لتدبر القرآن رغم شموليته للقرآن الكريم كله، إنما هو يقدم منهجاً متكاملاً للقرآن الكريم معطياً للتدبر والعمل المساحة المستحقة.
ومن الأكاديميات المميزة أكاديمية «القبلة لتدبر القرآن»، حيث تقدم الأكاديمية برنامجاً خاصاً في تدبر الكريم باللغة العربية والإنجليزية والماليزية.
وتتضمن الدراسة مواد متخصصة في التدبر والتفاسير التدبرية وعلوم القرآن الكريم وأصول التفسير والتجويد والقراءات، ويحق للطالب دراسة البرنامج كاملاً أو الاقتصار على بعضها، وجميع المحاضرات والبرامج التدريبية متاحة على الموقع الإلكتروني للأكاديمية مع مجموعة من الأنشطة العلمية والمقالات والمحاضرات والدورات التدريبية المساندة تحت إشراف أساتذة في علوم القرآن من شتى أنحاء العالم الإسلامي.
أكاديمية «المتدبر الصغير»
وتوجد حالياً العديد من المراكز والأكاديميات المحلية التي أخذت على عاتقها العمل والدعوة لمرتبة التدبر، حتى إن بعضها أسس صفحات على منصات التواصل الاجتماعي للدعوة للفكرة والترويج للمحاضرات باللغات العامية واستخدام الرموز التعبيرية والمنشورات القصيرة والصور كعوامل للجذب والترويج، وأيضاً انتشرت فكرة جوال التدبر لمواكبة نمط الحياة العصري السريع، لكن المميز حقاً هو تلك الأكاديميات التي تسعى لإعداد معلم ومعلمة التدبر.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة لأكاديمية «المتدبر الصغير» المتخصصة حصرياً للأطفال والمراهقين حتى عمر 18 سنة، وكل شريحة لها برنامج خاص، هذه المرحلة شديدة الخطورة التي تتشكل فيها ملامح الشخصية، وقد اتخذت الأكاديمية شعار «الإيمان قبل القرآن»، هذا الشعار الذي تم اقتباسه من حديث جندب بن عبد الله: «كُنَّا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم- وَنَحْنُ فِتْيَانٌ حَزَاوِرَةٌ فَتَعَلَّمْنَا الإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَازْدَدْنَا بِهِ إِيمَانًا» (أخرجه ابن ماجه).
أكاديمية «المتدبر الصغير» تعمل عن طريق مجموعة من الفروع، وأيضاً عن طريق التعلم عن بُعد (أون لاين)، وتقوم بنشر كتب مخصصة للأطفال ورسوم كارتونية ومسابقات، وتهتم جداً بالإجابة عن أسئلة الأطفال لترسيخ الإيمان في قلوبهم.
تقدم أكاديمية «المتدبر الصغير» أيضاً دبلوم صناعة الطفل القرآني، وهو دبلوم مقدم للمعلمين وللآباء والأمهات، ويهدف لتدريب الآباء حتى يستطيعوا تدريب أطفالهم على تدبر القرآن، كما يتم الاستفادة من المعلمين في تأسيس فصول جديدة قائمة على منهج التدبر.