قال القاضي عياض: قيل للإمام مالك بن أنس: إنك تدخل على السلاطين وهم يظلمون ويجورون؟ فقال: يرحمك الله، وأين المتكلم بالحق؟ وقال مالك: حق على كل مسلم أو رجل جعل الله في صدره شيئاً من العلم والفقه أن يدخل إلى ذي سلطان يأمره بالخير وينهاه عن الشر ويعظه، لأن العالم إنما يدخل على الحاكم يأمره بالخير وينهاه عن الشر، فإذا كان فهو الفضل الذي ليس بعده فضل(1)، ففي هذا الموقف دليل على دور العلماء في نصح الخلفاء ووجوب تذكيرهم بما يصلح أحوالهم وأحوال رعيتهم.
وقد تعددت مواقف العلماء الذين قاموا فيها بنصح الخلفاء بتقوى الله وتذكيرهم بالدار الآخرة، بقصد استقامة أحوالهم والاهتمام برعيتهم، ومن ذلك ما يأتي:
بين الحسن البصري.. وعمر بن عبدالعزيز:
كتب الحسن البصري إلى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: «احذر يا أمير المؤمنين، أن تكون فيما ملَّكك الله من أمر عباده كعبد ائتمنه مولاه، واستحفظه ماله وعياله، فبذر المال، وسرَّح العيال، وأفقَرَ أهلَه، وأتلف مالَه، واعلم يا أمير المؤمنين، أن الله أمر أنبياءَه أن يزجروا عباده عن الخبائث، وينهوهم عن الفواحش.
اذكر يا أمير المؤمنين قلةَ أشياعك عند ربك، وأنصارِك عليه يوم حشرك، فتزوَّد ليوم الفزع الأكبر.
واعلم يا أمير المؤمنين، أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، وبه يطول مقامك، وعنه يفارقك أحباؤك، يلقونك فيه وحيدًا، ويسلمونك إليه فريدًا، فتزوَّد يا أمير المؤمنين ليوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، واذكر إذا بُعثِرَ ما في القبور، وحُصِّل ما في الصدور، يوم تكون الأسرار ظاهرة، وقد نشر الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فاعمل الآن وأنت في مَهَل، قبل حلول الأجل، وانقطاع العمل، واحذر يا أمير المؤمنين أن تحكم في عباد الله بحكم الجاهلين، أو تسلك بهم سبيلَ الظالمين، ولا تسلِّط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لا يَرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ولَّى ظالمًا، أو أعانه، فقد ولَّى الإسلامَ ظهرَه»، فاتق الله أن تبوء بأوزارك وأوزارٍ مع أوزارك، وتحمِلَ أثقالك وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغرنك قوم يتنعَّمون ببؤسك، ويأكلون الطيبات بذهاب طيباتك.
ولا تنظر يا أمير المؤمنين إلى قدرك اليوم، وانظر إلى قدرك غدًا وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الرب، في مجمع من الملائكة والرسل، وقد عَنَت الوجوه للحي القيوم، يا أمير المؤمنين، وإن لم أبلُغْ في موعظتي ما بلغ أولو النهى، فلم آلك شفقة، ولا ادَّخرتُ عنك نصيحةً، ولا قصَّرت في موعظتك، فأنزِلْ كتابي إليك منزلَه، وتفرغ لسماعه فراغَ من يرجو الانتفاع به، ولْتَهُنْ عندك مرارةُ الدواء؛ لما ترجو من عاقبة الشفاء، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته»(2).
وروي أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى الحسن البصري: اكتب إليّ يا أبا سعيد بموعظة وأوجز، فكتب إليه: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فكأن الذي كان لم يكن، وكأن الذي هو كائن قد نزل، واعلم يا أمير المؤمنين أن الصبر وإن أذاقك تعجيل مرارته، فلنعم ما أعقبك من طيب حلاوته، واعلم يا أمير المؤمنين أن الفائز من حرص على السلامة في دار الإقامة، وفاز بالرحمة فأدخل الجنة(3).
بين الحسن البصري.. والنضر بن عمرو الحميري والي البصرة:
أورد ابن الجوزي للحسن البصري عدداً من النصائح التي يذكر فيها النضر بالعمل للآخرة وعدم الاغترار بالأماني في الحياة الدنيا، فقد دعا النضر الحسن يوماً، فقال له: يا أبا سعيد، إن الله عز وجل خلق الدنيا وما فيها من رياشها، وبهجتها وزينتها لعباده، وقال الله عز وجل: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وقال عز من قائل: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الأعراف: 32).
فقال الحسن: أيها الرجل، اتق الله في نفسك، وإياك والأماني التي ترخصت فيها فتهلك، إن أحداً لم يعط خيراً من خير الدنيا ولا من خير الآخرة بأمنيته، وإنما هي داران، من عمل في هذه أدرك تلك، ونال ما قدر له منها، ومن أهمل نفسه خسرهما جميعاً(4).
ودخل الحسن عليه في يوم آخر فقال له: أيها الأمير -أيدك الله- إن أخاك من نصحك في دينك، وبصرك عيوبك، وهداك إلى مراشدك، وإن عدوك من غرك ومنَّاك، أيها الأمير اتق الله! فإنك أصبحت مخالفاً للقوم في الهدى والسيرة، والعلانية والسريرة، وأنت مع ذلك تتمنى الأماني، فترجح في طلب العذر، والناس -أصلحك الله- طالبان: فطالب دنيا، وطالب آخرة، وايم الله لقد أدرك طالب الآخرة واستراح، وتعب الآخر وحرم، فاحذر -أيها الأمير- أن تسعى لطلب الفاني، وتترك الباقي، فتكون من النادمين(5).
بين سلمة بن دينار.. وسليمان بن عبد الملك:
سلمة بن دينار هو الذي اشتهر باسم أبي حازم الأعرج، وهو شيخ التابعين في المدينة المنورة، وقد توفي عام 135هـ، وقد سأله الخليفة سليمان بن عبد الملك قائلاً: ما لنا نكره الموت؟ فأجاب أبو حازم: لأنكم عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب(6).
بين سلمة بن دينار.. وعمر بن عبد العزيز:
طلب عمر بن عبد العزيز من أبي حازم الأعرج النصيحة والموعظة، فقال له أبو حازم: اضطجع، ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون قبل تلك الساعة، فجد فيه الآن، وما تكره أن يكون قبل تلك الساعة فدعه الآن(7).
بين عطاء بن أبي رباح.. وهشام بن عبد الملك:
دخل عطاء بن أبي رباح على هشام بن الملك يوما فتحدث معه في كثير من جوانب الإصلاح، ثم قال هشام لعطاء: ألك حاجة؟ قال: نعم، اتق الله في نفسك، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد(8).
بين عمر بن عبدالعزيز.. وأحد عُمَّاله:
كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أحد عماله قائلاً: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين(9).
فهذه مواقف العلماء التي يتجهون فيها إلى الولاة والخلفاء بالوعظ والتذكير، وهي تتسم بعدد من السمات، منها:
1- عمق العلاقة مع الخلفاء، حيث يتواصلون ويتشاورون ويتناصحون، ولا يتقاطعون ويتشاتمون.
2- شمول التذكير والوعظ لأحوال الدنيا والآخرة والحرص على إصلاحهما.
3- التبادل بين الخلفاء والعلماء في طلب النصيحة، فقد يطلب العالم النصيحة ويؤديها، وقد يطلب الوالي النصيحة من العالم فيقبل عليه ويؤديها في أحسن صورها.
________________________
(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك: القاضي عياض، (2/ 95).
(2) آداب الحسن البصري وزهده ومواعظه: للإمام ابن الجوزي، ص 104- 105.
(3) المرجع السابق، ص 109.
(4) المرجع السابق، ص 109.
(5) المرجع السابق، ص 115.
(6) حلية الأولياء: للأصفهاني، (3/ 234).
(7) المرجع السابق.
(8) تاريخ دمشق، ابن عساكر (40/ 368).
(9) سيرة عمر بن عبدالعزيز: ابن عبدالحكم، ص 64.