رأته غير بعيد وهو ينظر حوله وكأنه يبحث عن شيء ما، كان يتجول هنا وهناك وهو ينظر إلى البحر تارة وإلى الشاطئ تارة أخرى، حاولت أن تناديه فلم تستطع أن ترفع صوتها أمام الناس، ظلت جالسة مكانها على كرسي بجوار أختها عله يراها فيعرف مكانها الذي انتقلت إليه بعد أن تعبت من المشي فجلست للراحة.
ها هو ينظر إليها وهو يحث الخطى نحوها وهو سعيد، تهللت أساريره حين وصل إليها وقال لها ولأختها بصوت فيه بعض الجدية: كنت أبحث عن اللؤلؤة التي أحبها، والحمد لله فقد وجدتها، ومد إليها يده! تطلعت إلى يده بلهفة علها ترى اللؤلؤة لكنها سرعان ما ابتسمت وهي مسرورة وقد فهمت ما يعنيه، وقد غشت ابتسامتها حمرة الخجل على وجنتيها من أثر هذه المداعبة الرقيقة أمام أختها التي ابتسمت هي الأخرى وكأنها تغبطها عليه.
لا أحد يدري أثر تلك الكلمات على قلب هذه الزوجة، وما أدى إليه هذا الموقف العارض الذي لم يستغرق لحظات معدودة من وقت زوجها الطيب! كانت كلماته في الحقيقة هي اللؤلؤة بالنسبة لها وقد غاص في أعماق قلبه حتى استخرجها منه وقدمها لها على صفحات لسانه وتقاسيم وجهه! وقد كانت كفيلة بأن تنزع من قلبها أي مشاعر سلبية تجاهه إن وُجِدت، وتجدد كل مشاعر الحب والألفة والوداد التي يمتلئ بها قلبها تجاهه وكأنها عروس في أيام زواجها الأولى منه، وأدركت في هذه اللحظات أثر الكلمة الطيبة في النفوس، ولماذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم صدقة من الصدقات فقال: «الكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ» (رواه البخاري).
صدقة بلا مال
إنها الكلمة الطيبة التي تجدد الأمل وتذهب اليأس وتلقي بالإحباط بعيداً، فهي صدقة سهلة بدون مال لا عذر للمسلم في تركها، وحين يبذلها صاحبها خالصة صادقة فإنها لا تقل أثراً عن الصدقة بالمال، بل قد تكون الحاجة إليها أكثر في وقت من الأوقات حين تكون سبباً في تأليف القلوب المتفرقة، وإسعاد النفوس الحزينة، وتحريك ما ركد من الوداد بين الناس، ونثر بذور المحبة والتآلف فيما بينهم، وقد قال الله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة: 83)؛ أي: كلموهم طيباً، ولينوا لهم جانباً. (تفسير ابن كثير).
أهمية الكلمة الطيبة
وكما تكون الكلمة الطيبة مسموعة فإنها أيضاً تكون مكتوبة ومرئية، لا سيما في هذه الأيام التي انتشرت فيها الكتابة بسهولة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وأتيحت لكل الناس، وقد تجْمع بينهم وتؤلفهم على الخير كلمات طيبات صادقات سطرها صاحبها مخلصاً فيها.
وفي المقابل، حين تخلو الكلمة من الصدق والحقيقة؛ فإنها قد تؤدي إلى الاختلاف والكراهية وإشاعة الفوضى ونشر الأفكار المخالفة للدين، وقد يُراد بها إشغال الناس وتضييع أوقاتهم، والتشويش عليهم وتشويه الحقائق لديهم، ونشر القيل والقال.
ولأهمية الكلمة الطيبة وشدة الحاجة إليها وعظيم أثرها حث الإسلام عليها ورغب فيها فجعلها مُنجية لقائلها من النار، وسبباً من أسباب المغفرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» (رواه البخاري)، وقال: «إنَّ من موجباتِ المغفرةِ بذلُ السلامِ وحسنُ الكلامِ» (أخرجه الطبراني)، وقال: «إنَّ في الجَنَّةِ غُرفًا لمَن أطابَ الكلامَ، وأفشى السَّلامَ، وأطعَمَ الطَّعامَ، وصلَّى باللَّيلِ والناسُ نِيامٌ» (رواه الترمذي).
ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة الطيبة في سياق حديثه عن أعمال أخرى من أعمال البر والإحسان؛ مما يدل على أنها مهمة ولا تقل أثراً عنها، فيقول لنا: «كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عليه صَدَقَةٌ، كُلَّ يَومٍ تَطْلُعُ فيه الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، ويُعِينُ الرَّجُلَ علَى دابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عليها، أوْ يَرْفَعُ عليها مَتاعَهُ صَدَقَةٌ، والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها إلى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ، ويُمِيطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري).
أولى الناس بالكلمة الطيبة
إن أولى الناس بالكلمة الطيبة هم أقرب الناس إلينا من أمّ وأب، وزوج وولد، وأقارب وأرحام، وإن الكلمة الطيبة كاللؤلؤة الجميلة يخرجها قائلها من أعماقه فيهديها لمن يحب ولا يتركها حبيسة في صدفة قلبه، ولا ينبغي أن تقتصر على مَن هم خارج البيت من زملاء العمل والأصدقاء والأصحاب، ثم يكون الصمت القاتل أو النقد اللاذع مع الأهل والأسرة، أو كلام سوء وتجهُّم وفظاظة، بل إنهم بطيب الكلام أولى وأحق.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم خيرُكم لأهلِه وأنا خيرُكم لأهلِي» (ابن ماجه)، وقد «كان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه» (تفسير ابن كثير، الآية (19) من سورة «النساء»).
اللآلئ الثمينة
كم في بيوتنا من لآلئ ثمينة لا تُقدر بمال، تزين البيوت وتملؤها بهجة ونضارة، لكن البعض لا يهتم بها ولا يراها إلا بعد أن تُسلَب منه فيندم على تفريطه حين لا يُجدي الندم! وقد كانت تستحق منا أن نحفظها دون أن نشوه بريقها بخدش أو نؤذيها بكسر، وألا نضيعها بتقصير أو إهمال، فهي تحتاج مَن يزيح الغبار عنها ويعيد لها جمالها ورونقها بكلمة طيبة ولمسة حانية وود صادق.
قد تكون هذه اللؤلؤة والدَيك اللذَين وصاك الله بهما فقال: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الإسراء: 23)، وما أعظمها من لؤلؤة!
وقد تكون زوجك أو أختك أو بنتك اللاتي وصاك بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: «اسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ خَيْرًا» (رواه مسلم).
وقد تتمثل في الذرية التي وهبك الله إياها التي تحتاج للرعاية والصيانة حتى تصلح فتقر بها العين ويسعد بها القلب.
وقد تجد لؤلؤتك في إخوتك الذين يشتد بهم عضدك ويقوى بهم ظهرك.
وقد يظنها البعض أنها فقدت منه وقد غفل عنها وهو لا يدري!
فليفتش كل منا عن لؤلؤته المفقودة فقد يجدها تعيش معه وبجانبه لكنه لا يعطي نفسه بعض الوقت ليشعر بوجودها فيرى جمالها وبريقها، وقد تكون بعيدة عنه لسبب أو لآخر فليبحث عن هذا السبب المانع له وليسترد منه لؤلؤته.