«إن مجلس السيادة السوداني هو السلطة الشرعية التي تمثل الشعب السوداني وجمهوريته»، بهذا الوضوح بيّن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف موقف بلاده عقب زيارته للسودان نهاية أبريل 2024م، فيما قابله موقف سابق لمساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية مولي في، بجلسة أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس قائلة: «روسيا تسعى بشدة ليكون لها موطئ قدم في السودان من خلال الموانئ، لكن دورها في الانقلاب سنتحدث عنه في الجلسة السرية»، ليتجلى صراع المحاور الذي لا تخفيه الدولتان.
إن السودان بموقعه المتفرد ذي الأهمية الإستراتيجية والجيوبوليتكية (جغرافي/ سياسي)، والغني بالموارد الطبيعية، والمساحات الزراعية الشاسعة مع توفر موارد المياه لزراعتها، وخصوبة الأرض، والممتلك لثروة معدنية أهمها الذهب واليورانيوم، علاوة على الحدود البحرية إذ يبلغ طول الساحل على البحر الأحمر حوالي 498 كيلواً متراً.
يقول د. مصطفى كامل محمد في كتابه «المضايق البحرية»: مسرح الصراع الدولي القادم يرتبط بموقع البحر الأحمر الجغرافي المؤثر على العلاقات الإقليمية والدولية، فهو يتوسط قارات العالم القديم الثلاث؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا، ويشكل همزة وصل إستراتيجية لكثير من الطرق المائية بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي، وتأثيره الشديد والمباشر على حركة التجارة المحلية والإقليمية والدولية، ولكن الأهمية السياسية والقومية للبحر الأحمر تكمن في وقوعه في قلب كتلة من 7 دول عربية تشرف عليه، الأردن والسعودية واليمن والصومال وجيبوتي والسودان ومصر، تمتد على نحو 90% من سواحله، وهذا ما يجعلها عاملًا مؤثرًا وحساسًا في ميزان القوى والسياسات الدولية.
موقع بكل هذه الميزات سيكون محط نظر العالم، وصراع للنفوذ والمصالح كل يعمل على الاستحواذ عليه.
تاريخ العلاقات الروسية السودانية
إن الخطوات المتسارعة التي تشهدها العلاقات بين روسيا والسودان الآن لم تكن وليدة اللحظة، بل لها جذور منذ استقلال السودان عام 1956م؛ ومرت عبر ما يزيد على 6 عقود، مرت بتحولات عديدة وفقًا لتوجهات أنظمة الحكم، ففي ستينيات القرن الماضي، شهدت العلاقات تفاهمات اقتصادية وعسكرية، لكن توقفت تلك العلاقات في مطلع السبعينيات بسبب انقلاب هاشم العطا؛ ذي الخلفية الشيوعية، ثم عادت تدريجياً عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، من خلال تفاهمات واتفاقيات متطورة، أبرز مؤشراتها الاقتصادية على سبيل المثال، في العام 2015م تم الاتفاق مع شركة «سيبيريان» لاستخراج الذهب، وكذا مواصلة التعاون العسكري (منظمة التسليح السوداني روسية)، فقد تم الاتفاق على إقامة قاعدة عسكرية لوجستية في فلامنقو، مقابل مد السودان بالأسلحة، لكنها لم تنفذ للإطاحة بنظام الإنقاذ.
زيارة لها ما بعدها
عقب ثورة ديسمبر 2019م اختلفت التوجهات في المشهد، حيث اتجهت فيه القوى المدنية تجاه محور أمريكا والغرب، بينما اتجه المكون العسكري بشقيه (الجيش/ والدعم السريع) نحو روسيا.
وجرت مياه تحت الجرس، ففي نهاية فبراير 2022م قبل نشوب الحرب الأوكرانية يوم واحد وفي زيارة لنائب رئيس مجلس السيادة حميدتي لروسيا بوفد من وزارات المالية والزراعة والطاقة والمعادن استمرت 8 أيام، دارت حول بحثها للتعاون في مجال الأمن القومي وقضايا سياسية وتبادل الخبرات والتعاون المشترك ومكافحة الإرهاب، والتدريب.
أثارت هذه الزيارة حفيظة أمريكا والغرب مما حدا بهم لعقد لقاء عاجل وخاص بحميدتي عبر اللجنة الرباعية في السودان (أمريكا/ بريطانيا/ السعودية/ الإمارات) المعادية لروسيا، وعرضت عليه صفقة بتغيير وجهته من روسيا، عبر اشتراطات ثلاثة ما يلينا فيها أن يغلق كل نافذة كان يطل منها على روسيا (أو تركيا أو إيران أو حلفائهما في المنطقة)، وتبع ذلك خطوات أشعلت الحرب في السودان.
زيارات متبادلة بعد الحرب
زيارة مخائيل بوغدانوف المبعوث الروسي للشرق الأوسط وأفريقيا في مايو 2024م جاءت لتأكيد قوة العلاقات الروسية السودانية، وتم نقاش بعض من الملفات، والأبرز من ذلك كله الاعتراف بشرعية مجلس السيادة ودعم الحكومة السودانية، مع تأكيد موقف دولته الرافض للتدخلات الأجنبية وتحكم القوى الغربية بمصائر الشعوب، بحسب تعبيره.
أعقبت تلك الزيارة زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي مالك عقار في يونيو 2024م التي هدفت لتعزيز وترقية وتطوير العلاقات الثنائية مع روسيا في كافة المجالات، لا سيما الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية بصورة عامة، وبصورة أخص تنشيط وتفعيل الاتفاقيات واللجان المشتركة بين البلدين، لا سيما لجنة التشاور السياسي، واللجنة الوزارية المشتركة، واللجنة العسكرية، لوضع الخطط والبرامج، ورسم خارطة طريق واضحة المعالم، لتطوير العمل وصولاً إلى مرحلة الشراكة الإستراتيجية.
وتم الاتفاق على أن تمتد الاتفاقية لمدة 25 عاماً، وتنتهي برغبة أحد الطرفين في إنهاء الاتفاق، وتنص على أن تدعم وتمنح روسيا الجيش السوداني عتاداً حربياً وفق بروتوكول منفصل، إضافة إلى مساعدة روسيا في تطوير القوات المسلحة السودانية، كما تنص على ألا يتعدى عدد السفن الموجودة بنقطة الدعم الفني 4 قطع في آن واحد، متضمنة السفن الحربية على ألا يتعدى التواجد الروسي 300 فرد فقط للفنيين العاملين بنقطة الدعم اللوجستي، وتُلزم الاتفاقية روسيا بعدم الإضرار بالبنية التحتية والبيئية، إذ إن الاتفاقية تقول: إنها غير موجهة ضد أي دولة، وتعمل على تحقيق السلام وتسري فور التوقيع عليها بحسب تقرير موقع الشرق.
مصالح روسيا.. هل يمكن تحقيقها؟
الدب الروسي لديه مصالح إستراتيجية وأهداف في السودان يسعى لتحقيقها، وهي:
أولها: اعتبار السودان مدخلاً للتمدد الروسي في الشرق الأفريقي ليربطه بالتمدد في غربها؛ حيث هناك تاريخ ممتد ربط روسيا بأفريقيا، وفي هذا الإطار يمكن فهم زيارة الفريق الكباشي لدولتي النيجر ومالي، صدقتي روسيا، تزامناً مع زيارة مالك عقار لروسيا.
وثانيها: الحصول على الثروات المعدنية من الذهب واليورانيوم، حيث تعمل عدد من الشركات الروسية في مجال الذهب كشركة «GPB Global Resources» (مشروع «كوش»)، وشركتا «M-Invest»، و«روسدراغميد».
وثالث الأهداف إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، فقد قدمت روسيا بطلب بنقطة تزود بالوقود على البحر الأحمر مقابل إمداد السودان بالأسلحة والذخائر بحسب تصريح الفريق ياسر العطا.
لتحقيق هذه المصالح على الأرض يتطلب ذلك وجود حكومة منتخبة لتلتزم بعهدات الاتفاق، وواقع السودان لا يفي بذلك، مما يعيق توقيع اتفاقات إستراتيجية تريدها روسيا، مما يلقي عبئاً كبيراً على المفاوض السوداني للحصول على مبتغاه تكتيكياً.
الاتجاه نحو أي محور وفق المصالح
العلاقات الدولة مبينة على المصالح الوطنية، فمنها ما يكون محدوداً بوقت، ومنها ما يكون ممتداً لعقود.
وبالنظر وفق معطيات الواقع، فالسودان بحاجة لتزويده بأسلحة وذخائر للقضاء على تمرد «الدعم السريع»، هذا من الناحية العسكرية، وكذلك دبلوماسياً في حاجة لتأييد موقفه في المحافل الدولية، فالمحور الذي يمكن أن يوفر تلك المطلوبات وفق لعبة المصالح هو المحور الشرقي الذي على رأسه روسيا.