كاتب التدوينة: قاسم الحروب (*)
إن انبلاج آفاق التضحيات على مسارها الأممي والحضاري، ووجوب التحرك للوقوف يداً صامدةً مع كل عناصر النسيج الاجتماعي، لَمَبْغَىً ومَنَالً يرويه لنا التاريخُ صعباً ملطخاً بالدماء، فلطالما كان الواجب الإنساني والحضاري وداخلَ مَقَاِمِه الديني، يدعو إلى مساندة الشقيق والأخ، مساندة البعض للكل، والكل للبعض، على الصعيد المعنوي والمادي، والروحي الاجتماعي وغيرها، ولطالما كان البشر متسائلين، وبالذات أولئك الأقل حيلة ومقدرة: عن طريق مد يد العون، بمختلف الدوافع لكل واحدٍ منهم، إلا أن الوقائع التاريخية الماضية بين طياته تقول أن هذا العون كان مباشراً حتى خارج حدود المقدرة، وأن المسألة فداءٌ أكثر منه عونٌ ودعم، فداءٌ لهدف ورسالة، وغاية وضمير حي وشرف لا يبور، إلا على خسارة حاسمة لا تُبْقي ولا تَذر، فهل بات الأمر اليوم صعباً؟، وهل تغيرت القيم الإنسانية الأصيلة؟، وهل تطغى علينا الجغرافيا؟، وهل بات أمجادٌ عتاةٌ، أجدادً للحالمين بمجدهم؟!.
لا شك أن الأمة الإسلامية تآكلت بوصلتها ورسالتها وهذا مما لا يخفى على أحد، وأقول هنا الأمة لا الدين، فالدين محفوظٌ بحفظ الله له، ولكننا دائماً عندما نناقش القضية نأخذ بالاعتبار أن النسيج الاجتماعي للأمة محفوظ وموجود، لا بل وموزون الأركان، وإنما الحاصل هو فقط تشتيت للوجهة وتغييب للأولويات والأدوار الفاعلة، ولكن السؤال الذي نهاب طرحه، هل لا يزال نسيج الأمة موجوداً؟
إن كان الجواب نعم، فهناك لنعم هذه إذاً أدلة، فمثلاً لو قلنا إن الدليل هو ملياري مسلم حول العالم، فنقول باختصار شديد، لا يعني كونك مسلماً أنك ابن الأمة الإسلامية بالضرورة!، وإن قلنا الدليل في وجود الإسلام، فقد قلنا سابقاً أن حفظه من الله لا منا.
أما إن كان الجواب لا، ظاهرياً مادياً أو معنوياً (ظاهراً أيضاً)، فهنا نسأل، ما محددات وقواعد وجود الأمة من عدمها، والجواب البسيط المباشر ثلاث نقاط منهجية: الأولى، وجود نسيج لشبكة علاقات اجتماعية متماسك، ووجود أصول فكرية وثقافية تحافظ على ديمومته، الثانية، وهي وجود علاقة اتصال متماسكة ومتناسقة مع كافة عناصره، وعدم وجود الثانية لا يؤكد عدم وجود أمة (بشكلها المادي الوجودي) ولكنه ينفي استقرارها ويثبت لها حالة الإضراب، فتكون بذلك (أمة مطَّرِبَة العناصر). والثالثة والأهم، معرفة حدود هذا النسيج الأممي، والثالثة هذه هي التي تحقق النقطتين السابقتين وآثارهما على أرض الواقع.
أما عن مفهوم دراسة وجود فجوة في مجتمع من المجتمعات، فهذا يرجع لحجم العلل الحاصلة في نسيج ذلك المجتمع، فعلى سبيل المثال لا الحصر، لو أردنا دراسة الفجوة داخل نسيج المجتمع الأمريكي، فالفجوة التي يعانيها ذلك النسيج ويعيشها، منبعها سببان اثنان: الأول، أن الذي يوحد المجتمع الأمريكي تحت راية واحدة هي فكرة “العدو المشترك” وعلى كل نظام سياسي منتخب كلَ أربعِ سنوات، أن يقوم بما يلي حين استلامه: إظهار عدو مشترك، فمرة هي روسيا ومرة الصين ومرة الإسلام ككل ومرة العراق وأفغانستان وغير ذلك، ومن بعد إدارة بوش الإبن، يتطلب أيضاً إظهار من تريده أمريكا إرهابياً منحطاً، ومن تريده صانعاً للسلام والتقدم، إن نظرةً خاطفةً على هذا الهيكل الركيك الذي يحمل الولايات المتحدة ب 331 مليون أمريكي تقريباً، تُظْهِرُ أن الإشكالَ كبيرٌ جداً ولن يؤدي إلا إلى “انهيار”، انهيار الحلم الامريكي الذي سوقت له هوليود والأحزاب السياسية وحتى المنظمات الحقوقية والاجتماعية، بشكل مباشر وغير مباشر ولا حاجه للإشارة لدور الصهيونية فيها وخصوصاً هوليود، ويمكن للمهتم الرجوع إلى ما كُتِبَ في ذلك من مقالات وكتب، كذلك فإن تمكن أيباك (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية) في فرض قرار سياسي، داخلي وخارجي، وَمَدُّ نفوذها في الولايات المتحدة وسيطرتها على بواطن كثيرة لديها في صناعة القرارات، السياسية منها والعسكرية وحتى في بعض الشؤون الاقتصادية، كان يُظْهِرُ لصناع القرار هناك استقراراً ولو هيكلياً في مجريات العمل، نظراً لقوة هذا التيار السياسي وسلطته حول العالم، وفي أمريكا (بلد الديمقراطيات والأحلام) ظاهرياً، وبلد (الأحكام المعلبة المؤنسنة والديكتاتورية العالمية والاحتكار الرأسمالي) باطنياً، فجوة كبيرة غير مسبوقة بين القاعدة الشعبية، وهذه المرة مع النظام السياسي ككل ومع منهج عمل النظام بشكل كامل، وليس فقط مع أحزابٍ متناحرة، تتباهى بمن يقدم انحلالًا وتخلخلاً أكثر لقيم وهيكل المجتمع.
وبالعودة إلى الأمة الإسلامية والنقاط الثلاث، هل يوجد للأمة نسيج متماسك لشبكة العلاقات الاجتماعية، الجواب لا، لا على المستوى السياسي ولا الاجتماعي، أما الأصول الفكرية والثقافية التي من المفترض أن تحافظ على ديمومتها فهي مهمشة، تحت غطاءات قومية واهية ذات مصالح شخصية لأصحابها، وهي لا تتعدى حدود الشعارات إلى أرض العمل، وهل هنالك علاقة اتصال متماسكة ومتناسقة مع كافة عناصر الأمة الإسلامية؟، وهنا اذهب للنقطة الثالثة مباشرةً، ما هي حدود “النسيج الأممي” للأمة الإسلامية، ومن ينتمي إليها مع كل الصراعات الدائرة بين المسلمين بمختلف مذاهبهم وتياراتهم، فما هي العلاقة مثلاً التي تربط المغرب العربي، بمسلمي شرق آسيا مثلاً، أو ما العلاقة التي تربط بين بلاد الشام ومسلمي الإيغور في الصين أو مسلمي شبه القارة الهندية بأكملها مثلاً.
المشهد بكل ما فيه، ليس وصفاً لظاهرةٍ منتشرة، بل هذه برمجية ومنهجية تسري في كامل النظام الاجتماعي والحضاري، تؤثر عليه اقتصادياً، اجتماعياً وسياسياً، وتغّيرُ مسار القِوى وتضبط الموازين داخل المجتمع نفسه، وتؤثر بالتالي على كل عناصره، وليس عجيباً أن ترى، أن في التراث الإسلامي في عصر النبوة والخلفاء مثلاً، تماسكاً تعدى حدود الدنيا إلى حدود الآخرة، فمسألة كالموت والحياة، كالإيمان والإنكار، كالعجز والقوة، بل والفوز والخُسران، تأخذ هناك نوعاً آخر من التفسير، وقيمة أخرى من الاعتبار، لأن علاقة النسيج ببعضه أكبر من أبعاد المصالح الإستراتيجية الذاتية، إن في مثل هذا النسيج الذي لا يرى غير بصيرةٍ واحده، كيف ستنفع معه مثلاً اللعبة الدبلوماسية التي أرهقنا بفاعليتها كيسنجر! (وزير الخارجية الأمريكي الأسبق)، دون أن يكونَ الكلام الذي تقبله هي لنفسها ولغيرها واضحاً صريحاً والمطلوب مقصوداً، والمقصود موجوداً، لأنه وبكل اختصار، نظامٌ آمن بنفسه فاستقامت له طريقته، وكانت لهم أمجاد ظاهرية واضحة في الرواية والتفسير والإطار، لا كما الحالمون اليوم بمجدهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتب أردني.