إن آيات القرآن الكريم في إعجازها العقائدي والغيبي والتاريخي والبلاغي والعلمي والأخلاقي والتشريعي، ومعجزات النبي وسيرته وشمائله كلها دلالات يقينية على نبونه صلى الله عليه وسلم. ولكننا نؤمن أيضا بما جاء في القرآن الكريم أنه مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل. فهل رغم الشك في مصداقية هذه الكتب حاليا، وما حدث فيها من تحريف، لا يزال فيها إشارات عن البشارات؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنِّي عندَ اللهِ مكتوبٌ خاتمُ النَّبييِّنَ وإنَّ آدمَ لمنجَدلٌ في طينتِه، وسأخبرُكم بأوَّلِ أمري: دَعوةُ إبراهيمَ، وبِشارةُ عيسَى، ورؤيا أمِّي الَّتي رأَت – حين وضعَتني – وقد خرج لها نورٌ أضاءَت لها منه قصورُ الشَّامِ) أحمد وصححه الألباني.
والتبشير هو الإخبار بحادث يسُر، عظيم النفع، فمجيء الرسول إلى الناس نعمة عظيمة. وفي الإنجيل وصف رسالة الرسول الموعود به بأنها “بشارة الملكوت”. ففي إنجيل متّى 24 (13-14): “ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص، ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم ثم يكون المنتهى”. ومعنى يكرز يدعو وينبئ، ومعنى يصبر إلى المنتهى يتأخر إلى قرب الساعة (ابن عاشور).
مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل
يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157)
وهي نفس الصفات التي وردَت في النص الذي رواه عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: أجل والله! إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: “يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتُك المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويَغفِر، ولن يَقبضه الله حتى يُقيم به المِلَّة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلفًا” (البخاري). وفي زيادة المسند، قال عطاء: ثم لقيتُ كعبًا (كعب الأحبار، تابعي كان من علماء اليهود فأسلم) فسألته عن ذلك، فما اختلفا حرفًا.
وهي كما جاء في التوراة الحالية، بسِفر إشعياء 42 (1-17) “هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرَّت به نفسي، وضعتُ روحي عليه، فيُخرج الحق للأمم”. والنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخرج الحق لكل الأمم؛ فهو صاحب الرسالة العالمية لجميع أهل الأرض. وطبقا للنسخة الإنجليزية فالأمم Gentiles تعني عادة غير اليهودي، وبالتالي فليس المقصود عيسى. وكلمة: “وضعتُ روحي عليه” تَعني: النصرة والتأييد من الله.
وفي نفس السِّفر ألفاظ شبيهة بالحديث أعلاه: “لا يَصيح ولا يرفع ولا يُسمَع في الشارع صوته”. “أنَا الله دَعَوتُكَ لِلبِرِّ، أمسَكتُ بِيَدِكَ، وَحَفِظتُكَ، وَجَعَلْتُكَ وَسِيطَ عَهْدٍ مَعَ النَّاسِ وَنُورًا لِلأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ العُمِي، وَتُخرِجَ الأسرَى مِنَ الحَبسِ. لِتُخرِجَ الجَالِسِينَ فِي الظُّلمَةِ مِنَ السِّجْنِ”.
جبال فاران
في سِفر التثنية 33 (2) “وَهذِهِ هِيَ الْبَرَكَةُ الَّتِي بَارَكَ بِهَا مُوسَى، رَجُلُ اللهِ، بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَ مَوْتِهِ، فَقَالَ: جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ، وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ، وَتَلأْلأَ (تالق، استعلى) مِنْ جَبَلِ فَارَانَ”.
فمجيئه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من سعير (في فلسطين) إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام، واستعلاؤه من جبل فاران إنزاله القرآن لأن فاران جبال مكة (وتشمل حراء). ففي سِفر التكوين 21 (20-21) عن إسماعيل عليه السلام، وقد سكن بمكة: “وكان الله معه ونما وسكن في البرية وصار شابا يرمي بالسهام، وسكن برية فاران”.
وفي القرآن الكريم (والتين والزيتون) أقسم الله بهاتين الشجرتين، لأن سلطانهما في أرض الشام، محل نبوة عيسى عليه السلام. (وَطُورِ سِينِينَ) طور سيناء، محل نبوة موسى عليه وسلم. (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مكة المكرمة، محل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأقسم تعالى بهذه المواضع المقدسة، التي ابتعث منها أفضل النبوات.
وفي سِفر إشعياء 42 (11) “لِتَرْفَعِ الصَّحرَاءُ وَمُدُنُهَا أصوَاتَ تَسْبِيحِهِ، وَالسَّاحَاتُ الَّتِي تَسْكُنُهَا عَشِيرَةُ قِيدَارَ. لِيَهْتِفْ (ليترنم) سُكَّانُ مَدِينَةِ سَالِعَ بِفَرَحٍ. لِيَهْتِفُوا مِنْ قِمَمِ الجِبَالِ”. الصحراء هي التي سكنها قيدار جد قبائل مكة، من أبناء إسماعيل عليه السلام. وأصوات تسبيحه هو الأذان. وسالع جبل سلع بالمدينة المنورة، يقع غربي المسجد النبوي. وفي النص بشارة عن استقبال الرسول بالأناشيد والهتاف فرحا بمقدمه إلى المدينة.
أنا اللَّبِنَة وأنا خاتم النبيِّين
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين.) البخاري.
ضرب الحديث المثل لرجل بنى بيتا جميلا، ولكن هناك لبنة واحدة فيه بقي موضعها فارغا، فكان صلى الله عليه وسلم هو اللبنة التي بها اكتمل البناء. لأن به كمال الشرائع. وكل شريعة كاملة في عصرها، وشرعيته هي الشريعة الأكمل والأتم.
ورد في إنجيل متّى 21 (42-44): “أما قرأتُم قط في الكتب، الحجر الذي رفَضه البناؤون، هو قد صار رأس الزاوية من قِبَل الرب، كان هذا وهو عجيب في أعيننا؛ لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزَع منكم، ويُعطى لأمة تعمل أثمارَه، ومَن سقَط على هذا الحجر يترضَّض، ومَن سقط هو عليه يَسحَقه”.
وهذه الكلمات قالها المسيح عليه السلام لجماعة من اليهود بعدما وبَّخهم على قتْل الأنبياء وإنكار الرسالات. والنص إخبار المسيح لليهود باستبدال الله بهم أمة أخرى، تَحُل محلَّهم في القيام بأمر الدين، ويُخبِرهم عن الحجر الذي سيصير رأس الزاوية. والكلام يُشير إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أيَّده الله بالقوة المادية، حتى أَظهر الله به الدين.
أحمد
جاء بإنجيل يوحنا 14 (15-16) “إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ، وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ”، وكانت “فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد” -كما في النسخة المطبوعة سنة 1821 بلندن – وفارقليط يونانية، ولفظها الأصلي بيركلوط، ومعناه: محمد أو أحمد.[1]
يقول إبراهيم خليل، وكان من كبار علماء النصارى ومنّ الله عليه بالإسلام: “كانت آية الأعراف 157، مشجعة لي لدراسات مقارنة في صمت خلال خمس سنوات، حتى أتاني اليقين فدخلت وأبنائي وكريمتي في دين الله نسبح بحمده”. وقد درس اللغة اليونانية فقال إن كلمة Peroklytos (البيرقلوط) تعني المعجَب أو المُمَجَد وتطابق كلمة (محمد) أو (محمود) في اللغة العربية.[2]
أما عبد الأحد داود (كان اسمه دافيد بنجامين كلداني، أستاذ اللاهوت وكبير كهنة الروم الكاثوليك الكلدان، ويجيد الآرامية واللاتينية واليونانية والعربية) فكتب: “البرقليطوس يعني أحمد” وأنها تعني من الناحية اللغوية البحتة (الأمجد والأشهر والمستحق للمدح) وقال إن المسيح لم يتكلم اليونانية، وإن الكلمة الأصلية بالآرامية لم تكن سوى “محمَده أو حمِده” وهي تقابل محمد او أحمد بالعربية وتقابل كلمة “البرقليطوس” باليونانية.[3]
وسأل عبد الوهاب النجار (ت:1941) المستشرق الإيطالي كارلو نلينو عن كلمة (بيريكلتوس) في الإنجيل، فأجابه بقوله: “إن القسس يقولون: إن هذه الكلمة معناها: المعزي”. فقال له: إني أسأل الدكتور الحاصل على الدكتوراة في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيسا. فقال إن معناها “الذي له حمد كثير”. فسأله: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل من حمد؟ فقال نعم.[4]
وهذا ما جاء في القرآن الكريم (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) (الصف: 6).
إن كتب اليهود والنصارى فيها بشارات ونبوءات عن قدوم نبينا خاتم الأنبياء والرسل، الملقب في كتبهم بالنبي المنتظر، والمبعوث لكل الأمم، وابن الإنسان المنقذ، والنبي الأحمد المبشر بالإسلام، ورسول الله، والسيد الآمر مؤسس مملكة الله في الأرض.. ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) دكتوراه في العقيدة وأصول الدين.
[1] رحمت الله الهندي، إظهار الحق، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الرياض، 1989: 1198.
[2] إبراهيم خليل أحمد، محمد في التوراة والإنجيل والقرآن، دار المنار، 1989: 50.
[3] عبد الأحد داود، محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في التوراة والإنجيل، مكتبة العبيكان، الرياض/ 1997: 198.
[4] عبد الوهاب النجار، قصص الأنبياء، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ص398.