في خضم محاولات استعادة جملة الأخلاق الإسلامية والعودة بالأمة إلى أصالتها وريادتها وسبيل نهضتها، كان لا بد من التطرق لتلك الخصائص التي ميزت الأمة الإسلامية وحضارتها وثقافتها لالتماس الطريق الصحيح للعودة بها إلى سالف مسارها ومواطن قوتها.
والثقافة الإسلامية تتميز عن غيرها من الثقافات التي أثرت مؤخراً في الشخصية المسلمة ففقدت بوصلتها بأنها ثقافة ربانية مستمدة من شريعة رب العالمين غير تلك التي نتجت عن أفكار بشرية في بيئات لا دين لها، فرأينا كيف أنها سطرت في أنصع صفحات التاريخ وأكثرها تأثيراً إيجابياً في التاريخ العربي والغربي على السواء.
وتعرض كثير من المفكرين لمسألة الثقافة الإسلامية ليتناولوها من كافة جوانبها شرحاً وتفصيلاً لتكون نبراساً لمن يريد من الباحثين والمربين وأفراد المجتمع المسلم للتعاطي مع مسألة التغيير المرتقب بشكل صحيح.
وفي هذا البحث للدكتور عمر الأشقر، تناول فيه عدة نقاط مهمة نتناول منها خصائص الثقافة الإسلامية التي يمكن تسميتها بـ«الأخلاقية»، ومنها:
1- الربانية:
تعد الخصيصة الأولى وهي الأهم في جملة خصائصها دستور الحياة للمسلمين عبر تاريخهم، فهي مصبوغة بصبغة الله عز وجل، يقول تعالى: (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً) (البقرة: 138)، ووصفه الله عز وجل: (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) (الفاتحة: 6)، ولم تنته حياة النبي صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه إلا أن تبين الطريقان واكتمل المنهج فلا حجة لأحد في الانحراف؛ (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، ومثل النبي صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والنموذج التطبيقي الأمثل لكتاب الله، فتقول عائشة رضي الله عنها عن خلقه: «كان خلقه القرآن» (رواه مسلم).
2- اتساع آفاقها:
الثقافة الإسلامية تتمايز عن غيرها من الثقافات الأخرى التي تحوي ملامح عنصرية في معظم سلوكياتها العملية، وعبر عنها موفد المسلمين ربعي بن عامر لجيش الفرس حين لخصها قائلاً: «الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا، إلى سعة الدنيا والآخرة»(1).
فأصحاب الثقافات الأخرى تؤثر فيهم ثقافة تظللها أهواء من وضعها وتحكمها غرائز العاملين عليها ومصالحهم الخاصة، وتسير بقدم واحدة وهي المادية البحتة في مناهجهم، وقد قال فيها الله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم: 7)، ولقد دفعت الإنسانية من الشقاء ما لا يستوعبه عقل بسبب منهجيتها المادية التي اتبعها حتى المسلمون فتاهوا عن دربهم وخسر العالم نتيجة ابتعاد المسلمين عن دينهم.
3- العالمية:
تنبني الثقافات الإنسانية على اعتبارات قومية أو عنصرية، فما زالت ثقافة الرجل الأبيض لا تعترف بحقوق الآخر أو وجوده إلا أن يتبعها في دينه، ثم لا ترضى عنه في كافة الأحوال.
يقول رينان الفرنسي: «جنس واحد يلد السادة والأبطال هو الجنس الأوروبي، فإذا ما نزلت بهذا الجنس إلى مستوى الحظائر التي يعمل فيها الزنوج والصينيون فإنه يثور، فكل ثائر عندنا هو بطل لم يتح له ما خلق له، إنه إنسان ينشد حياة البطولة، فإذا هو مكلف بأعمال لا تتفق وخصائص جنسه، إن الحياة التي يتمرد عليها عمالنا يسعد بها صيني أو فلاح أو كائن لم يخلق لحياتنا»(2)! تلك هي النظرة العنصرية المقيتة للثقافة البشرية.
وفي المقابل، تجد أن الثقافة الإسلامية بعيدة كل البعد عن ثقافة العرب قبل الإسلام، أو ثقافة الفرس أو الروم، ولا ثقافة الغربي أو الشرقي، ثقافة تنبني على مبدأ الأفضلية للتقوى والعلاقة برب العالمين؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، وساوى الإسلام بين أبي بكر الصديق التاجر الحر مع بلال بن رباح العبد الحبشي في موازين الناس، ولا فرق بينهما وبين سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وجعل مبدأ الأخوة قانون التعامل بين المسلمين بعضهم بعضاً؛ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات 10).
والإسلام لم يكن للأمة المحمدية وحدها، ولم يسع العرب وحدهم، فكان خطاب الرسالة موجهاً للعالمين متساوين؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سبأ: 28).
4- الشمول والكمال:
يتصف الدين الإسلامي الذي تقوم عليه ثقافتنا بـ3 خصائص:
الأولى: العقيدة التي تعطي المسلم تصوراً كاملاً عن الإنسان والكون والحياة.
الثانية: إحاطة الشريعة بالإنسان في كل جوانب حياته من مولده وحتى مماته.
الثالثة: الشريعة قانون شامل يشمل القانون المدني والإداري والمالي والجنائي والدولي.
5- التوازن:
الموازنة بين الحقوق والواجبات ظاهرة بينة في أحكام الشريعة، كذلك بين الحقوق بعضها بعضاً، والواجبات أيضاً، ولموازنة بين متطلبات الجسد ومتطلبات الروح، فعلى سبيل المثال حرم الله الزنى، لكنه سن الزواج ليشبع الإنسان فيه رغباته المشروعة والفطرية، وحرم السرقة وسن الربح من التجارة وهكذا.
6- الإيجابية الفاعلة:
إحدى السمات المهمة في الثقافة الإسلامية الإيجابية مع الآخرين، فالمسلم مأمور بالتعاون مع الآخر لإصلاح الأرض وتعميرها وبنائها بما يتوافق مع مصالح الجميع، بل وجعل مقتضى الخيرية نفع الناس وتعريفهم بربهم، يقول تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، وفي مبدأ التعاون على الخير قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
7- الواقعية:
تميزت الثقافة الإسلامية عن غيرها بأنها تقوم أساساً على عقيدة تتميز بالوضوح التام والمثالية القابلة للتطبيق، فجملة الأخلاقيات الإسلامية والمبادئ والقيم ليست مستحيلة التطبيق كمدينة أفلاطون الفاضلة التي ظلت حبيسة الأوراق وخيال الكتَّاب.
والواقعية ليس المقصود منها التسليم للأمر الواقع والاعتراف بالانحدار والسقوط تارة، والسمو والرقي تارة أخرى، ولكن المراد أنها تضع التشريعات للإنسان من حيث هو إنسان، فالإنسان فيه القوة والضعف، يعلو أحيانًا ويهبط أحيانًا، وهو بحاجة إلى الشريعة التي ترقى به إلى مدارج الكمال، وتثني على استقامته إذا استقام، وتبصره بخطئه حين يخطئ، وتفتح له باب التوبة إذا عصى، وتشرع له الرخص التي يأخذ بها حين الضعف والمرض وعدم القدرة على العمل.
8- الحركة حول محور واحد:
التمحور حول مرجعية واحدة، فكافة الثقافات البشرية الموضوعة عبارة عن خليط من الأفكار والمبادئ لكل مجتمع في زمن ما على حدة، فهي مجموعة مكتسبة من عقول البشر على اختلاف أهوائهم وقيمهم وتربيتهم ومرجعياتهم؛ ولذلك وصف الله تعالى تلك الثقافة عامة فقال سبحانه: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) (النساء: 82).
إن حياة المسلم تدور حول محور واحد ثابت وهو إيمانه بالله الواحد الأحد، منه التشريع وله العبادة والخضوع، من شريعته يستمد تصوره للحياة ومعرفته به سبحانه، وكما يستمد منه القانون، فهو يستمد منه الأخلاق والقيم، إله واحد، دين واحد، وبه تتحقق طمأنينة القلب وتنشرح النفس ويستقر الإنسان ليعبر رحلته على الأرض بسلام نفسي لا تعرفه ثقافة أخرى.
______________________
(1) البداية والنهاية، ابن كثير (7/ 39).
(2) الثقافة الإسلامية، عبدالكريم عثمان، ص16.