ميز الله عز وجل الإنسان بالعقل، وحثه على استخدامه لإبصار الحق، وجعله سببًا لزيادة الإيمان ورفعة الدرجات، وجعل تعطيله سببًا للضلال، قال الله تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً {43} أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (الفرقان)، فجعل الله تعالى من لم يعقل في مرتبة أقل من مرتبة البهائم لتعطيل عقله واتباعه للهوى، ومن أهم ما يُعمل العقل فيه هو التفكر في آلاء الله عز وجل، وفي ظل تلك المادية المسيطرة على واقع الناس تدعو الحاجة إلى التذكير بعبادة التفكر وأهمية القيام بها.
أولاً: هل التفكر عبادة؟
أمر الله تعالى عبادَه بالتفكر في آياته، وأثنى على من يتفكرون في خلقه، وقرن ذلك بذكرهم الله تعالى في كل أحوالهم؛ لأن العبادة نتيجة حتمية للتفكر، قال سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران)، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في هذه الآية: «لقد نَزَلتْ علَيَّ الليلةَ آيةٌ وَيلٌ لِمَن قَرأها ولم يَتفَكَّرْ فيها»(1).
وكان السلف مقدرين لهذه العبادة الجليلة أيما تقدير، فقد روي عن عبدالله بن عباس أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة(2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: النظر إلى المخلوقات العلوية والسفلية على وجه التفكر والاعتبار مأمور به مندوب إليه(3).
ثانياً: الآثار الحسنة للتفكر:
1- ترسيخ الإيمان بالله عز وجل:
حين يتأمل الإنسان في خلق السماوات والأرض وما فيهما من إبداع يزداد إيماناً بوجوب وجود خالق لهذا الكون، وبمزيد من التأمل في عِظَم المخلوقات يتيقن في قدرة خالقها عز وجل وحكمته، وحينما يرى هذه القدرة في تدبير شؤون المخلوقات يوقن بأن لا رازق سوى الله، وبذلك تثبت وجوب عبادة الخالق عز وجل، وكل ذلك ثابت بالعقل حتى قبل الشرع، فما البال بكرم الله عز وجل في إرسال الرسل وإنزال الكتب التي تُعرِّف به سبحانه وبدينه.
2- تحقيق التوكل على الله تعالى:
قال الله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (الحديد: 17)، وإن التفكر في خلق الله تعالى بتأمل إحيائها وإماتتها يعيد للإنسان شعوره بالطمأنينة، فلا يحدث في الكون شيء إلا بمشيئة الله، وبذلك يتوكل المرء عليه عز وجل وحده دون غيره، قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان: 58).
3- حب الله عز وجل وخشيته:
إن التفكر في نِعَم الله عز وجل التي لا تعد ولا تحصى تورث حبه، وإن التفكر في عظمته وقدرته على أخذ الظالمين تورث خشيته، وفي حصول هذا الحب والخشية تحقيق العبادة، قال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف: 56).
4- تحصيل الحكمة:
قدر الله تعالى أن يبدأ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عبادته لربه بالتفكر والتحنث في غار حراء، وكأنها إشارة إلى دور عبادة التفكر في تحصيل الحكمة، فإن التأمل في السنن الكونية يورث الفهم العميق للحوادث والبصيرة في المواقف.
ثالثاً: عوائق دون العمل بالتفكر:
ورغم أن التفكر قد يبدو أمرًا فطريًا بسيطًا؛ لكنه قد صعُب في هذا العصر بسبب شدة حصار المادية، ومن ذلك:
1- الانشغال بالدنيا:
إن الانشغال بأمور الدنيا من أكبر التحديات التي تعيق المسلم عن عبادة التفكر، فكثير من الأعمال الدنيوية يستهلك من وقت المسلم وطاقته الكثير في غير فائدة، وذلك مما يجعله يجد صعوبة في تخصيص الوقت لهذه العبادة الجليلة.
2- التشتت الذهني:
ومعلوم الآن أن الكثير يعاني من التشتت الذهني وصعوبة التركيز بسبب الانغماس في وسائل التواصل الافتراضية وأمثالها من المشتتات؛ مما يجعل الأفكار متزاحمة، فتُلفِت عن التفكر في الأمور الفاضلة.
3- ضعف المعرفة الشرعية:
إن التفكر يتطلب فهمًا صحيحًا للآيات الكونية والنصوص الشرعية على حد سواء، ولذلك قد يعاني البعض من ضعف في القدرة على الربط بينهما؛ مما قد يؤدي إلى الشعور بقلة فائدة التفكر.
4- فقدان الغاية:
إن البعض قد يشعر تجاه التفكر بالملل طالما لم يحدد الغاية من ورائه، وهذا الشعور سبب يؤدي إلى التقليل من قيمة هذه العبادة الجليلة حتى عند من يقوم بها بالفعل، فإنه يحولها إلى مجرد عادة مكررة دون تأثير عميق على نفسه وعمله.
5- التأثر بالمحيط السلبي:
إنه في بعض الأحيان يشكل المحيط الذي يعيش فيه المرء بيئة غير مشجعة على التفكر، سواء كان ذلك بسبب الأصدقاء أو البيئة الاجتماعية التي تهمل الجوانب الروحية وتركز فقط على الأمور المادية.
رابعاً: حلول مقترحة لتجاوز تلك التحديات:
1- تخصيص وقت محدد للتفكر:
على المرء أن يخصص وقتًا محددًا للتفكر لا يتنازل عنه، وذلك حتى ولو كان قليلًا كدقائق معدودة، وتزيد ثمرته لو كان في أوقات فاضلة كوقت النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، أو البكور حيث يكون الوقت هادئًا، مما يُهيئ النفس إلى تحقيق التفكر.
2- التدرب على التركيز:
يمكن تحقيق ذلك من خلال التدبر لآيات القرآن، والجلوس في أثنائه في محل هادئ لمنع المشتتات.
3- طلب العلم الشرعي:
لا أكثر إفادة للمسلم من أن يسعى لتعلم العلوم الشرعية، فهذا مما يعينه على فهم أعمق للآيات الكونية والشرعية، ويمكن تحصيل ذلك من خلال حضور الدروس، وقراءة الكتب المفيدة، والخلطة بالعلماء وطلبة العلم، فكلها خطوات تسهم في إثراء عملية التفكر.
4- تنويع مواضع التفكر:
إن التنويع في المواضع التي يُتفكر فيها أدعى للانتباه، كالتفكر مرة في خلق السماء والأرض، وأخرى في النفس البشرية، وثالثة في سير الأنبياء والصالحين.. إلخ، فهذا التنوع يبقى العقل متحفزًا فيزيد من عمق التأمل.
5- اختيار البيئة المناسبة:
من المفيد أن يحرص المسلم على قضاء وقت التفكر في أماكن ملهمة، مثل الطبيعة، أو المساجد، أو القبور، وغيرها من الأماكن التي تذكر بالله عز وجل، كما أن مصاحبة الأشخاص الذين يشجعونه على التفكر يمكن أن يكون عاملًا مساعدًا في تحقيق هذه العبادة.
_____________________
(1) رواه ابن حبان (620)، وهو صحيح على شرط مسلم.
(2) رواه أبو الشيخ الأصبهاني في «العظمة» (1/ 297).
(3) مجموع الفتاوى (15/ 343).