كثيرًا ما يثار الجدل حول علاقة السياسة بمفاهيم معينة، مثل القيم الإنسانية والأخلاقيات، فيرى البعض أن السياسة ينبغي أن تخضع للقواعد الأخلاقية وليست للمصالح، بينما يرى البعض الآخر أن المصالح تؤدي دوراً قوياً في مواقف الدول وقرارتها، ويرون أنه في عالم السياسة لا يُعرف كيف تتشابك المصالح، ويبرهنون أنه في وقت الأزمات تتصرف كل دولة حسب مصالحها.
لذا، عند النظر إلى موقف أي دولة من الدول تجاه قضية بعينها، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن العلاقات بين الدول في الغالب تقوم على أساس المصالح المشتركة، وقد تتبدل هذه المصالح من زمن إلى آخر، وذلك حتى لا يكون حكمنا نابعاً من العواطف التي غالباً ما تسوق شعوبنا مما يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير صائبة.
وما بين هذا وذاك، نرى أنه لا بد من التصرف بشكل موضوعي مع الأحداث، ولا بد من الانحياز إلى الجانب الإنساني، وألا تكون المواقف بناء على مصالح مع هذا الطرف أو ذاك.
وإذا نظرنا إلى السياسات الصينية تجاه منطقتنا العربية، نلاحظ أن الصين من الدول الفاعلة على الصعيد الجيوسياسي، ونجد أن سياساتها تقوم على المصالح، فقد استطاعت بكين أن تحافظ على علاقات طيبة مع الدول العربية والعالم الإسلامي كجزء من صراعها في مواجهة الإمبريالية الأمريكية، وفي الوقت ذاته حافظت على مصالحها الاقتصادية مع «إسرائيل» حليف الولايات المتحدة.
الصين تحاول إرضاء جميع الأطراف
منذ وقت غير بعيد كانت الصين تتبنى سياسة «أصدقاء مع الجميع»، أما الآن فتمر سياساتها تجاه المنطقة العربية بتحولات وتقلبات جيوسياسية وجيوستراتيجية كبيرة خصوصاً بعد حرب الإبادة في غزة، فعلى الرغم من التوجه الصيني تجاه المنطقة، ورغبتها في ممارسة دور إقليمي في الصراع الفلسطيني «الإسرائيلي»، فقط طرأت قواعد جديدة لسياساتها لا سيما فيما يتعلق بعلاقاتها بـ«إسرائيل» وبالقوى العالمية الكبرى، وهو ما ينذر بحدوث تغيرات كبيرة في نظام القوى العالمي.
عموماً تتأرجح سياسات الصين بين جميع الأطراف، فهي لا تستطيع أن تتحمل الانحياز إلى طرف واحد بعينه؛ لأنها تحتاج إلى كافة الأطراف لتحقيق مصالحها، فهي بحاجة إلى الجانب «الإسرائيلي»، فتعد الصين أكبر شريك تجاري لـ«إسرائيل» في شرق آسيا، وقد سعت إلى الحصول على خبرة «إسرائيل» في مجالات الطاقة الشمسية، وتصنيع الروبوتات، والري، والبناء، والزراعة وإدارة المياه.
كما تحتاج الصين إلى إيران كحليف لها، أيضاً تريد الصين أن تستثمر علاقاتها في الدول العربية، بينما تحافظ على علاقاتها القوية مع عدوهم اللدود «إسرائيل»، تاريخياً سعت بكين إلى موازنة علاقاتها مع «إسرائيل» مقابل رغبتها في الظهور بمظهر البطل للفلسطينيين على الساحة العالمية.
تاريخ العلاقات الصينية «الإسرائيلية»
في عام 1950م اعترفت «إسرائيل» بدولة الصين، وبعد عام واحد فقط، أي في عام 1951م ضغطت الولايات المتحدة على «إسرائيل» لتجميد علاقاتها مع الصين بسبب الصراع الأمريكي الصيني في حرب كوريا، ولم تقم بينهما علاقات رسمية لأكثر من 40 عاماً، وقد تبنى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ موقفاً مناهضاً لـ«إسرائيل»، فرأى أن «إسرائيل» وتايوان قاعدتان للإمبريالية في آسيا، وأنهما من تأسيس الغرب ضد العرب والصين.
وفي عام 1988م اعترفت بكين بفلسطين ودعت منظمة التحرير الفلسطينية لإرسال بعثة شبه دبلوماسية للصين، وقد كانت هذه البعثة هي الأولى من نوعها لفلسطين في بلد غير عربي.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام، حدثت تطورات في العلاقات الثنائية، أدت إلى إقامة علاقات دبلوماسية في عام 1992م، وفي عام 2000م قام الرئيس الصيني بزيارة تاريخية لـ«إسرائيل»، وزارَ رئيس الوزراء «الإسرائيلي» السابق إيهود أولمرت بكين في عام 2007م؛ حيث تَمَّ إبرام العديد من الاتفاقيات.
في المقابل، حرصت «إسرائيل» على الموازنة بين علاقتها مع الصين وعلاقتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، لكن حدثت قفزة جوهرية في العلاقات الثنائية عام 2013م بالتزامن مع توتر العلاقات بين حكومة نتنياهو وإدارة الرئيس الأسبق أوباما.
المصالح المشتركة محرك العلاقة بين الصين و«إسرائيل»
تدفع المصالح المشتركة «إسرائيل» إلى تعميق علاقاتها مع الاقتصاد الصيني الذي يعد من أسرع الاقتصاديات نموًا في العالم، فضلاً عن تحوطها من احتمال صعود الصين إلى مقعد الدولة المهيمنة عالمياً، فوفقا لدراسة أجراها مركز «راند» عام 2019م، تسعى بكين لتعزيز الاستثمار في البنية التحتية بـ«إسرائيل» وحثها على الانخراط في مبادرة «الحزام والطريق»، وذلك ضمن جهودها لتقويض علاقات واشنطن مع الدول الحليفة.
التحديات التي تواجه العلاقات الصينية «الإسرائيلية»
تنظر واشنطن إلى بكين كمنافس عالمي، وتشعر بالقلق إزاء نقل أي تكنولوجيا يمكن أن تمنحها تفوقاً عسكرياً؛ لذا تظل عائقاً في العلاقات «الإسرائيلية» الصينية، ففي عام 2000م أجبرت الولايات المتحدة «إسرائيل» على إلغاء صفقة بيع نظام الرادار المحمول جواً «فالكون» إلى الجيش الصيني، في حين سمحت واشنطن لـ«إسرائيل» ببيعه للهند بعد 3 سنوات من حجبها بيعه للصين،
وفي المقابل، تمثل العلاقات «الإسرائيلية» العسكرية المتنامية مع الهند تحدياً لبكين، إذ حازت الهند على 33% من إجمالي صادرات الأسلحة «الإسرائيلية» بين عامي 2001 و2021م، كما أن العلاقات الصينية الإيرانية تعد من أبرز التحديات الأخرى، فالصين هي أكبر مستورد للنفط الإيراني، أيضاً ساعدت بكين طهران على تعزيز قدراتها العسكرية عبر بيعها صواريخ باليستية وأخرى مضادة للسفن.
علاقات الصين مع العرب
في ديسمبر 2022م، تم إبرام عدد من الاتفاقيات ومذكرات تفاهم ثنائية بين جمهورية الصين الشعبية والمملكة العربية السعودية، من أبرزها خطة المواءمة بين رؤية المملكة 2030م ومبادرة الحزام والطريق الصينية، ومذكرة تفاهم في مجال الطاقة الهيدروجينية، وأيضاً في مجالات الأمن وتشجيع الاستثمار، كما أن هناك ترويجاً كبيراً ومنتشراً أيضاً بين الصينيين للسياحة في السعودية.
ومنذ عام 2013م، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري للسعودية، وفي عام 2022م بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين أكثر من 116 مليار دولار أمريكي، بزيادة سنوية قدرها 33.1%، أيضاً أدرجت المملكة العربية السعودية مؤخراً تدريس اللغة الصينية في جميع المدارس الثانوية الحكومية والخاصة، وهي الخطوة الأولى من نوعها لدولة عربية، بالطبع كل هذه التفاهمات والاتفاقات تعود بمكاسب اقتصادية هائلة على الصين.
بكين أصبحت لاعباً مؤثراً في المنطقة العربية
في 14 يونيو 2023م، زار الرئيس الفلسطيني محمود عباس الصين، وخلال زيارته أكدت بكين دعمها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وشدت على حل الدولتين.
أيضاً برهنت بكين على أنها لاعب فاعل في التوسط بين الفلسطينيين، وأوضحت أنها شريك موثوق به في معالجة القضايا الإقليمية، فقد نجحت، في يونيو الماضي، في لم شمل كافة القوى الفلسطينية، فبدعوة رسمية منها، اجتمعت الفصائل الفلسطينية في لقاء وطني ضم 14 فصيلاً فلسطينياً في بكين واتفقت على التوصل إلى «وحدة وطنية شاملة» في إطار منظمة التحرير، فيما عرف بـ«اتفاق بكين».
وفي مايو الماضي، استضافت العاصمة الصينية بكين الاجتماع الوزاري العاشر لمنتدى التعاون الصيني العربي، الذي تزامن مع الذكرى العشرين لتأسيسه عام 2004م، وقال وزير الخارجية الصيني وانغ يي: كانت أهم نتائج الاجتماع أن الرئيس شي جين بينغ استجاب لقرار قمة جامعة الدول العربية، وأعلن أن القمة الصينية العربية الثانية ستعقد في الصين عام 2026م.
دور الصين في الوساطة بين السعودية وإيران
أيضاً نجحت بكين في التوسط بين السعودية وإيران لاستئناف علاقاتهما الدبلوماسية المتوقفة منذ عام 2016م، حيث اتفق الطرفان على عودة العلاقات الدبلوماسية بعد 7 سنوات من القطيعة إثر مفاوضات استضافتها الصين.
تعاظم الدور الصيني على حساب تراجع النفوذ الأمريكي
وقد رأت صحيفة «نيويورك تايمز» أن الدور الصيني يتعاظم اقتصادياً وسياسياً في الشرق الأوسط على حساب ضعف النفوذ الأمريكي في تلك المنطقة، ووصفت صحيفة «واشنطن بوست» هذا التطور بأنه اختراق كبير لتنافس مرير، ولفتت إلى فشل محاولات إدارة الرئيس أوباما إصلاح العلاقات بين السعودية وإيران، الذي كان يرى أن الصراع بينهما يمثل مصدراً للتوتر الطائفي في المنطقة.
الأزمة الإنسانية في غزة
لقد أثرت الأزمة الإنسانية في غزة بشكل كبير على نهج السياسة الصينية «أصدقاء مع الجميع» الذي تبنته الصين في السابق، حيث كان هدف بكين سابقاً تجنب الانحياز إلى أي طرف في النزاعات التي لا تعنيها، لكن في الآونة الأخيرة، بدأت تنظر إلى مثل هذه النزاعات على أنها فرصة لتحويل الضغط الدبلوماسي والرأي العام الدوليين ضد واشنطن، وهي المقاربة التي جعلتها تنحاز ضد حلفاء الولايات المتحدة، مثل «إسرائيل» وأوكرانيا، لمجرد تسجيل نقاط ضد الغرب، فقد استخدمت بكين حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن برفقة روسيا على مشروع قرار تقدمت به الولايات المتحدة يدين «حماس» ولا يدعو لوقف إطلاق النار، وردت «إسرائيل» على موقف الصين، بانضمام «تل أبيب» إلى جانب 50 دولة أخرى في الأمم المتحدة، في أكتوبر الماضي، لإدانة الإجراءات الصينية تجاه سكان إقليم تركستان الشرقية من الأويغور.
بناء على ما سبق، يتوقع أن تزداد الفجوة السياسية بين الطرفين على عكس الوضع بينهما خلال العقد الماضي، وهنا يمكننا القول: إن المصالح الصينية المحرك الأساسي لمواقفها المؤيدة للعرب، وقد تلاقت في هذه اللحظة التاريخية المصالح العربية والصينية، فهل من يحسن استغلالها لصالح شعوبنا؟
____________________________
(1) https://www.nytimes.com/2023/10/28/world/asia/china-israel-hamas-antisemitism.html
(2) https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/lmadha-tnhaz-alsyn-dd-asrayyl-wlmadha-syaty-dhlk-ly-alarjh-bntayj-ksyt
(3) https://www.rand.org/pubs/research_reports/RR2641.html
(4) https://www.spa.gov.sa/w1824251
(5) https://www.cairn.info/revue-confluences-mediterranee-2019-2-page-147.htm?ref=doi
(6) https://www.jstor.org/stable/48600106