في عصر تتطور فيه المعرفة وإنتاجها بسرعة مذهلة، أصبحت التنمية الذاتية محور اهتمام الكثيرين سعياً لتحقيق النجاح والتوازن في الحياة، وبينما تتعدد النظريات والأساليب الحديثة في هذا المجال، يقدم القرآن الكريم رؤية شاملة ومتكاملة للتنمية الذاتية، تستند إلى أسس روحية وأخلاقية راسخة، لكنها تتجاوز مفهوم النجاح الشخصي الضيق لتربط تطور الفرد بمسؤوليته تجاه خالقه ومجتمعه.
فبينما تتمحور رؤية التنمية الذاتية من المنظور الغربي حول «الفرد» وتطوره، لا يقدم القرآن هذه الرؤية إلا من منظور تكاملي، باعتبار أن الإنسان جزء لا يتجزأ من مجتمعه، وهو ما عبر عنه المفكر الإسلامي الراحل د. طه جابر العلواني، في كتابه «التنمية البشرية في القرآن الكريم»، بالإشارة إلى أن مفهوم التنمية الذاتية في القرآن يرتكز على فكرة الاستخلاف في الأرض.
يقول العلواني: إن الله تعالى خلق الإنسان وكرمه وجعله خليفة في الأرض، وهذا يستلزم تنمية قدراته وإمكاناته لأداء هذه المهمة العظيمة، ومن هذا المنظور يضع التنمية الذاتية في إطار أوسع، حيث يصبح تطوير الذات وسيلة لتحقيق غاية أسمى.
وفي هذا الإطار، يجعل القرآن عبادة «التفكر والتدبر» من المبادئ الأساسية للتنمية الذاتية، وهو ما ورد في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24).
ويصف العلامة الراحل د. يوسف القرضاوي هذا المفهوم، في كتابه «العقل والعلم في القرآن الكريم»، بأنه المدخل الأساسي لتنمية الذات وتطوير القدرات العقلية والروحية للإنسان، مشيراً إلى أن التدبر في آيات الله الكونية والقرآنية يفتح آفاقاً جديدة للمعرفة والفهم، مما يسهم في تطوير الشخصية بشكل متكامل.
ومن المبادئ المهمة أيضاً في التنمية الذاتية من منظور القرآن مبدأ المحاسبة الذاتية والتقييم المستمر، ما يعبر عنه قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر: 18).
وفي هذا الصدد، تشير أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر د. سعاد صالح، في كتابها «التربية الإسلامية ودورها في تنمية الفرد والمجتمع» إلى أن المحاسبة الذاتية تعد من أهم آليات التنمية الذاتية في الإسلام، حيث تدفع الفرد إلى التحسين المستمر وتصحيح الأخطاء، وتضيف أن هذا المبدأ يساعد على تنمية الوعي الذاتي والمسؤولية الشخصية، وهما عنصران أساسيان في التنمية الذاتية الفعالة.
وعند مقارنة مبادئ التنمية الذاتية القرآنية مع النظريات الحديثة في علم النفس والتنمية البشرية، نجد تقارباً في بعض الجوانب واختلافاً في أخرى، فعلى سبيل المثال، يتفق مفهوم الوعي الذاتي في نظرية الذكاء العاطفي لدانيال جولمان مع مبدأ المحاسبة الذاتية في القرآن.
يقول جولمان، في كتابه «الذكاء العاطفي»: الوعي الذاتي هو حجر الأساس للذكاء العاطفي، وهو ما يتوافق مع المفهوم القرآني للمحاسبة الذاتية، لكن هذا المفهوم ذاته يتميز بربط التنمية الذاتية بالبعد الروحي والأخلاقي، وهو ما قد يغيب عن النظريات الغربية الحديثة.
نتائج أفضل
في دراسة أجراها الباحث محمد الغزالي بعنوان «أثر تطبيق مبادئ التنمية الذاتية القرآنية على الصحة النفسية للشباب المسلم»، التي نُشرت في مجلة الدراسات النفسية والتربوية بجامعة الأزهر، تبين أن الشباب الذين يطبقون مبادئ التنمية الذاتية المستمدة من القرآن يتمتعون بمستويات أعلى من الرضا عن الحياة والصحة النفسية مقارنة بأقرانهم الذين لا يطبقون هذه المبادئ.
وشملت الدراسة عينة من 500 شاب وشابة، وأظهرت النتائج أن 78% من المشاركين الذين طبقوا المبادئ القرآنية للتنمية الذاتية سجلوا مستويات أعلى في مقاييس الصحة النفسية والرضا عن الحياة.
ولوضع خطة عملية لتطبيق مبادئ التنمية الذاتية القرآنية في حياة الفرد المسلم، يمكن الاستفادة من نموذج «العادات السبع للناس الأكثر فعالية» لستيفن كوفي، مع تكييفه ليتناسب مع المنظور الإسلامي.
فعلى سبيل المثال، يمكن تحويل عادة البداية بالنهاية في الذهن إلى استحضار الآخرة والهدف من الحياة من منظور القرآن الكريم.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن استطلاعاً للرأي أجرته مؤسسة جالوب العالمية في عام 2019 حول «الروحانية والتنمية الذاتية» شمل عينة من 5000 شخص من مختلف أنحاء العالم، أظهر أن 78% من المسلمين المشاركين يعتقدون أن القيم الدينية تؤدي دوراً إيجابياً في تنميتهم الذاتية، مقارنة بـ45% من غير المسلمين.
وتشير هذه النتائج إلى أهمية البعد الروحي في التنمية الذاتية لدى المسلمين خاصة، وتؤكد الحاجة إلى نموذج للتنمية الذاتية يراعي هذا البعد.
وفي ضوء ما سبق، يتضح أن القرآن الكريم يقدم منظوراً فريداً وشاملاً للتنمية الذاتية، يجمع بين الأبعاد الروحية والعقلية والعملية، وبينما تتفق بعض مبادئه مع النظريات الحديثة، إلا أنه يتميز بربط التنمية الذاتية بالغاية الكبرى من وجود الإنسان، ولعل التحدي الأكبر الذي يواجه المسلمين اليوم هو كيفية تفعيل هذه المبادئ في واقعهم المعاصر، والاستفادة منها في مواجهة تحديات العصر مع الحفاظ على هويتهم وقيمهم الإسلامية.
إن تبني نهج التنمية الذاتية القرآني لا يعني الانعزال عن العالم أو رفض كل ما هو حديث، بل يعني الاستفادة من المعارف والتقنيات الحديثة في إطار الرؤية الإسلامية الشاملة، وهو ما يؤكده الداعية والمفكر الإسلامي د. طارق السويدان في كتابه «صناعة النجاح» حيث يقول: المطلوب هو الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بحيث نستفيد من كل ما هو نافع في العلوم الحديثة مع الحفاظ على جوهر تعاليمنا الإسلامية، معتبراً أن هذا النهج يمكّن المسلم من التفاعل الإيجابي مع متطلبات العصر دون التفريط في قيمه وهويته.