مارست المحاضن التربوية في ظل الحضارة الإسلامية دوراً بالغ الأهمية والحيوية في صناعة أفراد نقلوا العالم القديم لاتجاه آخر تماماً حيث تعانق العلم مع الإيمان، وحيث تغيرت قيم البشرية وقوانينها لإبداع حضارة إنسانية تستلهم القيم الإيمانية وتعيد الاعتبار للإنسان وكرامته التي أهدرتها النظم السلطوية القائمة آنذاك.
كذلك أدت المحاضن التربوية دوراً حاسماً في صناعة علماء نموذجيين؛ وعلماء ربانيين، قادوا الأمة وكانوا بمثابة حائط صد لأي خطر يواجهها، كان كل منهم أمة في ذاته، فكيف حدث هذا؟ وما طبيعة هذه المحاضن التربوية التي نشأت في ظلال حضارة الإسلام؟ وما الدور الذي اضطلعت للقيام به؟
محاضن فريدة
عندما نتحدث عن المحاضن التربوية في القرون السابقة وفي ظلال الحضارة الإسلامية، فنحن نتحدث عن محاضن فريدة حيث تدمج في بنيتها العميقة بين التربية والتعليم حتى لا نكاد نستطيع الفصل بينهما، فطبيعة العلوم الإسلامية من علوم قرآن وتفسير وعقيدة وفقه وحديث لا يمكن دراستها بصورة نظرية ولا يمكن دراستها دون أبعاد تربوية تطبيقية، حتى العلوم الطبيعية كالرياضيات والفلك والطب ونحو ذلك سنجد العلماء الذين قاموا بدراسة وتدريس هذه العلوم هم أيضاً مهتمون بالعلوم الإسلامية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الروح التي تسري في هذه المحاضن كانت مفعمة بروح الرعاية والاهتمام الصادق كما فعل الشعبي، وكان أستاذاً لأبي حنيفة، وكان أبو حنيفة وقتها شديد الاهتمام بالتجارة وفي الوقت ذاته يتردد على حلقات العلم.
ولم يكن الشعبي أستاذاً عادياً يكتفي بما يلقيه على الطلاب من علم، ولكنه كان شديد الاهتمام والانتباه للحوارات مع طلابه، فهو في حالة تعليم تفاعلي، وسعى لمنح الأمة مزيداً من العلماء النابهين، وهذا ما رآه في أبي حنيفة فسأله عن غيابه المتكرر عن حلقات العلم وانتبه جيداً لإجابته ومن ثم وجهه بصدق وقال له: «لا تغفل وعليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء فإني أرى فيك يقظة وحركة»، ولم تكن مجرد كلمات وإنما هي مشاعر صادقة حارة محفزة وداعمة من قلب مهتم؛ لذلك وصلت لقلب أبي حنيفة الشاب وقتها أو كما قال أبو حنيفة: «فوقع في قلبي من قوله فتركت الاختلاف إلى السوق وأخذت في العلم فنفعني الله بقوله».
وأصبح أبو حنيفة العلَّامة الذي نفع الله به الأمة، وعلى الرغم من ذلك تابع تجارته، لا تمنعه حلقات العلم ولا قيام الليل من الإشراف عليها، وأسس من هذه التجارة حاضنة تربوية أخرى فكان ينفق المال على طلبة العلم ويقول لهم: «أنفقوا في حوائجكم ولا تحمدوا إلا الله فإني ما أعطيتكم من مالي شيئاً ولكن من فضل الله عليّ»، وهو نفس ما كان من أبي حامد الغزالي الذي انتهى بعد تجربة حياتية وفكرية عميقة للعودة لبلدته وتأسيس حاضنة تربوية لطلابه يعلمهم العلم ويؤويهم ويكفلهم العيش.
الحاضنة التربوية التي جعلت معلم الصبية البسيط الذي يعلم الإمام الشافعي الذي كان يعاني مادياً فلا يجد ما يقدمه له يقترح عليه أن يساعده في الحلقة مقابل تعليمه مجاناً حتى لا يحرمه العلم، وفي الوقت ذاته لا يخدش كرامته وسط زملائه.
الحاضنة التربوية القائمة على التفاعل هي التي جعلت الشافعي يشكو لأستاذه تراجع مستواه العلمي فيرشده لترك المعاصي.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نــــــــــور ونور الله لا يهدى لعاصي
وهي ذاتها الحاضنة التربوية التي دعمت الإمام الشافعي ليدرس دراسة موسوعية حتى لمذاهب المخالفين والمنطق اليوناني فيتشكل ذلك كله في وضعه لعلم أصول الفقه، تماماً كما درس ابن تيمية الرياضيات بجوار العلوم الإسلامية.
ولو تأملنا في الحاضنة التربوية التي احتوت عالماً بقامة ابن تيمية سنجد أنها تبدأ من البيت، فوالده كان واحداً من كبار علماء الحنابلة كان يدرس بجامع دمشق، فكان الوالد وكان الأستاذ، أما والدته فكانت امرأة صالحة واعظة ذات تأثير عميق على ولدها، ويكفي الرسالة التي أرسلها إليها من مصر لندرك أننا أمام علاقة ثرية نشأت عبر حاضنة تربوية حقيقية امتزج فيها العلم بالعاطفة في وحدة فريدة.
مدارس وكتاتيب
إذا كانت البنية العميقة للمحاضن التربوية التي نشأت في ظلال الحضارة الإسلامية ارتكزت على الدمج بين العلم والإيمان، وقامت على الاهتمام والدعم واتسمت بالتوازن وامتلكت القدرة على الاستمرارية على مدار قرون ممتدة، فإن البنى الظاهرة تنوعت وتباينت وتعقدت.
يمكن القول: إن دار الأرقم كانت نقطة البدء في تكوين حاضنة تربوية للرعيل الأول، فكان كبار الصحابة وهم من هم في العلم والجهاد وهم النموذج البشري الأقرب للكمال من رباهم النبي صلى الله عليه وسلم وخاطبهم الوحي وعلى أيديهم تغير وجه الأرض، في تلك الدار البعيدة المنزوية على أطراف مكة اجتمع النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين الأوائل وعلمهم ورباهم وتدارس معهم الكتاب، وكوَّن أول حاضنة تربوية نشأت في ظل الإسلام.
هاجر المسلمون بعدها بسنوات فكان حاضنتهم الأساسية هي المسجد الذي قام بالدور الذي قام به دار الأرقم بالإضافة طبعاً لإقامة الصلاة، المسجد الذي كان حاضنة تربوية شاملة حيث تجاوز التربية الفردية للتربية الجماعية وإدارة شؤون الجماعة المؤمنة.
وكانت «الصفة» محضناً تربوياً من نوع آخر، حيث كان يقيم في المسجد مجموعة من المؤمنين غالبيتهم من فقراء المهاجرين ممن لا يملك مسكناً، فكانوا يقضون الوقت في التعلم والعبادة حتى إذا تيسرت ظروفهم المادية غادروا وانضم فريق آخر من المؤمنين، وعلى خطوات أهل الصفة نشأت الزوايا والأربطة والخانقوات مع بعض الفروق في الوظيفة والوصف المعماري لكن ما أريد التوقف عنده كونه يمثل حاضنة تربوية مميزة هي الكتاتيب والمدارس.
الكتاتيب هي أحد أهم معالم الحواضن التربوية في عالمنا الإسلامي التي لا تزال موجودة على نحو ما حتى هذه اللحظة، وما من عالم عظيم إلا وكانت بداية نشأته في الكتَّاب، الذي انتشر مع حركة الفتوح الإسلامية، فالكتَّاب كان دائماً مرتبطاً بالمسجد، ولكنه مختص بتعليم الصبية والأطفال؛ وذلك للحفاظ على هدوء المسجد ونظافته، وغالباً ما يكون في القرية الواحدة بضعة كتاتيب، وذلك للتسهيل على الأطفال وأيضاً للإقبال الضخم من أولياء الأمور لإلحاق أطفالهم بهذه الحاضنة التربوية التي يتعلم فيها الطفل القرآن الكريم واللغة العربية والحساب والمعارف الأساسية، فكان الكتَّاب حجر الأساس الذي انطلق منه العلماء.
عرفت الحضارة الإسلامية المدارس ذات البناء الخاص والقاعات المتعددة كحواضن تربوية منظمة، كان في قرطبة في القرن الثامن مئات المدارس ولم يعد ثم مسجد إلا وتلحقه مدرسة مجانية معتمدة على المبدأ ذاته، وكانت «المدرسة النظامية» نقطة تحول في تاريخ المدارس الإسلامية، كانت هذه أول مدرسة خاصة لها بناء تعليمي منفصل ملحق بها ثم لم يلبث أن تبعها العديد من المدارس ذات المباني الجميلة والقاعات المتعددة ورواتب المعلمين المنتظمة ممن يحملون رخصة لمزاولة التدريس، وكان الطلاب يقيمون ويأكلون ويحصلون على كسوة مقابل تفرغهم للعلم، ومن ثم فلا دهشة أن خرجت هذه المدارس علماء نموذجيين أقاموا حضارة مزدهرة.