لست بحاجة للتأكيد على أن «طوفان الأقصى» أنزلت بالكيان الصهيوني الإجرامي هزيمة مدوية، وألحقت به خسائر فادحة على مختلف الأصعدة، وقد حظيت وقائع هذه الحرب، وما زالت، بأبعادها على كافة الأصعدة وانعكاساتها السلبية الخطيرة على الكيان الصهيوني؛ بتغطية موسعة على مدار الساعة، باستثناء الجانبين النفسي، والاجتماعي أو المجتمعي؛ المتمثلين في الهزة النفسية العنيفة التي عصفت بـ«الإسرائيليين»، والشروخ العميقة التي ضربت بنية مجتمعهم في مقتل؛ حيث لم يحظَ هذان الجانبان بالتغطية التي تتناسب مع أهميتهما البالغة وخطورتهما وعِظم شأنهما في هذا الإطار؛ من هنا كان هذا المقال الذي يستقي مادته الأساسية من الصحف «الإسرائيلية» ذاتها؛ متناولاً إياها بالتحليل والربط والاستنتاج.
1- تفكك بنية المجتمع «الإسرائيلي»:
مثّلت «طوفان الأقصى» زلزالاً عنيفاً خلخل البنية العضوية للمجتمع «الإسرائيلي» وصلت إلى حد تتشقق لَبِناتها ووضع مكوناتها في حالة من التخبط والتضارب، وهو ما ينعكس بكل وضوح من الكتابات التي هي في الحقيقة صرخات مدوية أطلقها كبار الكتَّاب والمحللين والشخصيات «الإسرائيلية» المعروفة في الشهور الأخيرة؛ على صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية «الإسرائيلية»؛ معبّرين من خلالها عن هذ الوضع البائس، ومحذرين من تداعياته المصيرية الخطيرة في القريب العاجل، وهذه بعض منها:
– تحت عنوان «بينما تواصل إسرائيل انهيارها: نتنياهو مستمر في بيع الأكاذيب الخسيسة للجمهور»، كتب اللواء احتياط يتسحق بريك مقالاً جاء فيه: الكراهية المشتعلة داخل «إسرائيل» التي تتعمّق مع استمرار الحرب؛ بين اليمين واليسار، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين العرب واليهود؛ تُقوِّض الدولة من الداخل. (معاريف 25/ 7/ 2024م).
– يقول بن كسبيت، أحد أهم محللي صحيفة «معاريف»، على صفحات عددها الصادر يوم 30/ 7/ 2024م: «إسرائيل» ليست على حافّة الفوضى، بل هي في حالة فوضى فعلاً؛ فمقاطع الفيديو التي تُظهر عشرات أو مئات المواطنين يحاولون اقتلاع بوابات القواعد العسكرية، في حين يقف الجنود النظاميون، على الجانب الآخر محرجين، ويحاولون منعهم، هي رمز تفككنا.. إن ملاك الخراب على بُعد خطوة من إنهاء مهمَّته؛ التدمير النهائي والكامل للحلم الصهيوني.
«طوفان الأقصى» خلخلت البنية العضوية للمجتمع «الإسرائيلي» وصلت إلى حد تتشقق لَبِناتها
بل وصل الأمر إلى تعليق صور جدارية ذات مغزى في هذا الإطار في ميادين «تل أبيب»؛ التي نشرتها شبكة «فوكس» الإخبارية، التي تحمل نداء تحذيرياً لأبناء المجتمع «الإسرائيلي»؛ إذ يقول مضمون كلماتها التي قُرنت بصورة للقائد البطل يحيى السنوار: «فكِّروا جيداً فيمن يُفيد من انقسامنا».
2- سيطرة الرعب وتدني المعنويات:
من أهم الخسائر التي ألحقها مجاهدونا في غزة بـ«الإسرائيليين» أيضاً؛ زرع الرعب في قلوبهم، وإصابتهم بحالة من الذعر والهلع؛ تبدّت على وجوههم، وانعكست في أحاديثهم وتخبطاتهم، والأهم والأخطر أن حالة الذعر هذه عصفت بنفوس الآلاف من جنود جيشهم وضباطه، ويكفي أن نقرأ ما كتبه د. إيتان هايعام، المدير العام السابق لوزارة الصحة: «بعد مرور ما يقرب من 10 أشهر على اندلاع حرب «السيوف الحديدية»، تشير البيانات الصادرة عن الأجهزة الصحية والأمنية إلى أن حوالي 10 آلاف جندي في الخدمة النظامية والاحتياطية تعرّضوا لصدمات نفسية من الحرب الحالية ولجؤوا إلى الحصول على المساعدة النفسية.
ويضيف: ومن المتوقَّع أن تواجه «إسرائيل»، إلى نهاية الحرب وما بعدها، ما بين مليون ونصف مليون إلى مليوني شخص يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، والمشكلة أننا قد لا نعرف عن العديد منهم على الإطلاق. (معاريف، 5/ 8/ 2024م).
كما تعرّض شبابهم وأطفالهم إلى صدمات نفسية لا تقل خطورة؛ شغلت الرأي العام المتصدع المذعور، ودوّت أصداؤها في صفحات جرائده، بل إن حالة الهلع والشعور بالضياع التي أصابت المدنيين أيضاً؛ دفعت نسبة كبيرة منهم إلى اللجوء إلى تعاطي المواد المخدرة والمهدئة وإدمانها؛ حيث ارتفعت نسبة مدمني هذه المواد بشكل كبير بعد أهوال «طوفان الأقصى».
النهاية الكاملة والأبدية للكيان الصهيوني لا بد أن تسبقها تطورات جذرية على الساحة العالمية
وقد أوردت وكالة «فرنس برس» تقريراً في هذا الخصوص؛ جاء فيه: «ارتفع استهلاك المخدرات وازداد السلوك الإدماني في «إسرائيل» بشكل حاد بعد الهجوم غير المسبوق الذي شنته حركته «حماس»، في 7 أكتوبر، بحسب العاملين في مجال الصحة، وقال الطبيب النفسي شاؤول ليفران، مؤسس المركز «الإسرائيلي» للإدمان والصحة النفسية في نتانيا: في رد فعل طبيعي على الضغط النفسي وبحثاً عن الراحة، نشهد ارتفاعاً كبيراً في تناول مختلف المواد المهدئة المسبّبة للإدمان، سواء كانت أدوية عبر وصفة طبية أو مخدرات غير مشروعة أو كحول، وأحياناً في السلوك الإدماني مثل لعب القمار. (فرانس برس 11/ 8/ 2024م).
3- الهجرة العكسية وانهيار صورة الوطن الآمن:
كنتيجة طبيعية للأوضاع العامة البائسة في الكيان الغاصب من ناحية، وبحكم طبيعة تكوينه كوطن وهمي مصطنع لا يحمل له أبناؤه أي انتماء أو ولاء، إلا بقدر ما يحقق مصالحهم الدنيوية المادية المتغيرة، في علاقة نفعية غريبة وفريدة بين الطرفين من ناحية أخرى، فقد أدّت «طوفان الأقصى» إلى ظهور هجرة عكسية، من داخل الكيان إلى خارجه، وهو ما تناقلته وسائل إعلامهم بشكل لافت.
ففي 23 يونيو الماضي؛ كتب تاني جولدشتين، على موقع «زمن يسرائل»: في الشهور الأخيرة نشرت وسائل الإعلام عدداً كبيراً من المقابلات مع مواطنين يهود وعرب؛ صرحوا بأنهم قرروا مغادرة البلاد؛ من بينهم نازحون من منطقة غلاف غزة والحدود الشمالية.
وفي السياق ذاته كتب الأديب «الإسرائيلي» ب. ميخائيل، مقالاً تخيّل فيه أنه زار قبر هرتسل؛ فوجده قد حفر نفقاً وخرج منه ليهرب عائداً إلى قبره الأصلي في فيينا، الذي نُقل منه إلى القدس قبل 75 عاماً، ثم دار بينهما حوار مطول، وصف فيه ميخائيل «إسرائيل» بأوضاعها الحالية، على لسان هرتسل بهذه الكلمات: سلة مهملات من العنصرية، والقومية، والعسكرية، والكراهية، والتعصّب الديني، والتمييز ضد النساء، والوثنية، والقسوة، والاستبداد، والفساد. حاخامات في الثكنات وجنرالات في المعابد. (هاآرتس، 14/ 8/ 2024م).
إن جميع هذه الشواهد والأحداث تبيّن لنا إلى أي درجة وصل المجتمع «الإسرائيلي» من التفكك والتضارب والتخبط، وإلى أي حد سكن الخوف قلوب «الإسرائيليين» وملأ الذعر نفوسهم، ويشكل هذان العاملان، بالإضافة إلى خسائرهم البشرية؛ أهم وأخطر خسائر هذا الكيان المحتل في الحرب الحالية، بل إن مغزى خسائره الفادحة في هذه الأبعاد الثلاثة وعواقبها الفعلية الوخيمة المرتقبة قريباً؛ تفوق ما يترتب على خسائره العسكرية العينية، والاقتصادية.
إنها بداية النهاية لهذا الكيان الإجرامي، لكن مع هذا، ولكي نُنزل الأحداث منزلتها، ونضع الأمور في ميزانها الصحيح؛ علينا أن نعلم أن النهاية الكاملة والأبدية لهذا الكيان لا بد أن تسبقها تطورات جذرية على الساحة العالمية، تقلب أوضاع داعميه الكبار إلى الأسفل، وتزيل أقدامهم من مواقعهم المتحكمة المتغولة المتغلغلة، كما لا بد أن تسبقها أيضاً تطورات إيجابية في أوضاع العالم الإسلامي؛ بتوجهات بلدانه ومواقفها وأحوالها بوجه عام، لا سيما الجزء العربي منه.