يمثل حزب العدالة والتنمية في تركيا ظاهرة سياسية فريدة لم يسبقه لها حزب سياسي آخر في تاريخ الجمهورية الحديثة، لا من حيث طول مدة الحكم بشكل متواصل (22 عاماً)، ولا من حيث الإنجازات التي حققها لا سيما في العشرية الأولى؛ اقتصادياً واجتماعياً وديمقراطياً، وفي السياسة الخارجية ومجالات الإصلاح عموماً.
بيد أن مؤشر الحزب في تراجع ملحوظ في السنوات الأخيرة، منذ عام 2016م على أقل تقدير، من حيث وتيرة الإصلاحات من جهة، وشعبيته في الشارع المنعكسة في صناديق الانتخابات من جهة أخرى، فرغم أن الناخب التركي لم يفضّل حتى اللحظة رئيساً غير رجب طيب أردوغان (على تراجع واضح تمثل في منافسة كليجدار أوغلو له وحسم المنافسة في جولة إعادة)، فإن العدالة والتنمية كحزب في تراجع نسبي مستمر منذ عام 2017م، وقد خسر بلديتي إسطنبول وأنقرة في الانتخابات المحلية عام 2019م.
في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة، فاز الرئيس أردوغان (رئيس الحزب) بولاية رئاسية جديدة وتحالف الجمهور الذي يقوده بأغلبية مقاعد البرلمان، لكن ذلك لم يحجب الأسئلة المشروعة عن مستقبل الحزب والتحديات التي ستواجهه في الفترة المقبلة، التي أعادت طرح نفسها في ذكرى تأسيسه في 14 أغسطس الماضي (التأسيس كان عام 2001م).
أهم هذه التحديات، من وجهة نظرنا، أربعة:
الأول: الاقتصاد: استلم العدالة والتنمية في عام 2002م اقتصاداً منهاراً ودولة عاجزة ومثقلة بالديون، ثم كانت أهم بصماته وإنجازاته في المجال الاقتصادي، فرغم النقاش القائم حول سياساته الاقتصادية، فإن أحداً لا ينكر القفزات الاقتصادية الضخمة التي حققها الحزب في سنواته الأولى وحتى عام 2013م على أقل تقدير، من حيث ارتفاع الدخل القومي ومتوسط دخل الفرد والتضخم ودين صندوق النقد الدولي وغيرها من المؤشرات.
بيد أن هذه البصمة الواضحة تراجعت بشكل ملحوظ في السنوات اللاحقة، وتحولت لأكبر تحدٍّ يواجه الحزب، لا سيما مع المشكلات المرتبطة بالاقتصاد في السنوات الأخيرة، من حيث تراجع سعر صرف الليرة والقوة الشرائية وارتفاع نسبة التضخم وغلاء الأسعار وغير ذلك من مؤشرات تركت آثارها العميقة على المواطن في حياته اليومية.
ولئن أشار الحزب مراراً للضغوط الخارجية كأهم أسباب المشكلات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، وهي قائمة فعلاً، إلا أنه عاد ليشير إلى مشكلات بنيوية في الاقتصاد ينبغي معالجتها، كما أنه –كرئاسة وحكومة– يتحمل جزءاً لا بأس به في طريقة إدارة الأزمة من حيث الإصرار على خفض نسبة الفائدة ثم رفعها (نظريتان متناقضتان في الاقتصاد) ومن حيث التغيير المستمر لوزير المالية ومحافظ المصرف المركزي.
الحزب مُطالَب بعملية مراجعة شاملة وتغيير أعمق من مجرد تغيير أسماء
اليوم، بعد الانتخابات ومع ذكرى التأسيس، ثمة مقارنات تطرحها المعارضة بين المؤشرات الاقتصادية الحالية وتلك التي كانت في عام 2001م، ويدرك الحزب أن أهم وأخطر التحديات التي تواجهه تتمثل في الاقتصاد، وأنه كان السبب الأبرز على الأغلب في تراجعه في الانتخابات.
الثاني: التجديد وكسب الثقة: في عدة استحقاقات انتخابية منذ الاستفتاء على التعديل الدستوري الذي أقر النظام الرئاسي في أبريل 2017م، تتراجع نسبة تأييد الحزب الحاكم في الانتخابات، ويعدُ الرئيس أردوغان بعد كل منافسة انتخابية بدراسة «رسائل الصندوق»، كما يسميها، وهي أسباب عزوف بعض الناخبين عن التصويت للعدالة والتنمية، ثم التجاوب معها.
اليوم، يبدو الحزب مُطالَباً أكثر من أي وقت مضى بعملية مراجعة شاملة وتغيير حقيقية أعمق من مجرد تغيير أسماء بعض الشخصيات في الهيئات القيادية أو بعض الوزراء كما يحصل عادة، المطلوب عملية مراجعة لمنظومة أفكار الحزب وخطابه وبعض سياساته وتحالفاته.
تبدو المهمة هنا صعبة جداً حتى في حال توفرت لها الإرادة السياسية لدى أردوغان نفسه، إذ ستكون هناك عوامل كابحة ومقاومة من داخل الحزب نفسه قبل خارجه، ولذلك نضع هذا التحدي ضمن التحديات الرئيسة، لكنها أيضاً خطوات لا بد منها لاستعادة ثقة جزء مهم من الشارع التركي.
الثالث: سؤال الهوية: تأسس العدالة والتنمية حزباً إصلاحياً مكملاً لأحزاب وشخصيات إصلاحية في تاريخ تركيا الحديث مثل مندريس، وأوزال، وأربكان، في مواجهة أنظمة الوصاية التقليدية من جيش وقضاء وإعلام وغيرها، ورفع شعار مكافحة الفقر والفساد والحظر، لكنه مع الوقت، ومع تغير الظروف الداخلية والإقليمية ومع الأزمات والتحديات التي واجهها، إضافة لتحالفه مع حزب الحركة القومية ورغبته في استمالة التيار القومي المتصاعد في الشارع التركي، بات في السنوات القليلة الأخيرة أقرب لحزب قومي بخطاب يميني يقترب أحياناً من الشعبوية؛ وقد أفقده ذلك ثقة وتأييد جزء مهم من شريحة الإسلاميين والمحافظين، وابتعاد عدد مهم من القيادات المؤسِّسة.
اليوم، يقف الحزب على أعتاب مرحلة مفصلية، محاولاً استيعاب دروس ورسائل صندوق الانتخابات الأخيرة، وبالتالي دراسة وتخطيط ثم تنفيذ ما يمكن عمله، وفي مقدمة ذلك العودة إلى مبادئ سنوات التأسيس الأولى، وهي مهمة صعبة بعد كل هذه السنوات، لكن لا يبدو أن هناك فرصة كبيرة للنجاة بدونها، ويزيد من أهمية هذه الخطوة أن الحزب لديه اليوم منافسون عديدون على التيار الإسلامي والمحافظ، مثل أحزاب السعادة والرفاه مجدداً والمستقبل والديمقراطية والتقدم والدعوة الحرة، وهي وإن كانت ما زالت ضعيفة الحضور إلا أنها تمثل بديلاً بالنسبة للكثيرين؛ وبالتالي قادرة على السحب من رصيده والتأثير في نتائج الانتخابات كما فعل الرفاه مجدداً بقيادة فاتح أربكان في الانتخابات المحلية الأخيرة.
الرابع: سؤال ما بعد أردوغان: أسس أردوغان العدالة والتنمية مع مجموعة واسعة من القيادات المعروفة في تيار «الميللي غوروش» (الرأي الوطني) الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان، لكنه تحول مع الوقت للرئيس الفعلي والقائد الأوحد له، وقد استطاع أردوغان بإنجازاته وكاريزمته وطريقة إدارته للحزب والحكومات المتعاقبة أن يحوز على ثقة وطاعة القيادات وجزء مهم من الشارع لم ير له بديلاً، بل لم يبحث عن غيره؛ ولذلك، لم تُبحث مسألة خلافة أردوغان في الحزب حتى اللحظة بشكل جدّي.
خلافة الرئيس أردوغان تمثل التحدي الأكثر صعوبة أمام العدالة والتنمية
بيد أن الأمر ينبغي أن يطرح في المرحلة المقبلة في الهيئات القيادية للحزب، فهذه هي المدة الدستورية الأخيرة لأردوغان رئيساً، وحتى لو كان هناك مخرج أو احتمال دستوري لترشحه مجدداً (اتخاذ البرلمان قرار تبكير الانتخابات)، فإن نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة تقول: إن ترشحه مرة أخرى قد يكون مغامرة غير محسوبة العواقب، ولذلك يحتاج الحزب منذ الآن أن يفكر ويعمل بشكل هادئ على البدائل المحتملة للرجل.
ورغم أن الملف غير داهم، فإنه قد يكون التحدي الأكثر صعوبة أمام الحزب، فمن جهة يصعب عادة في التيارات والأحزاب السياسية تعويض القيادة المؤسِّسة، فما بالنا بشخص مثل أردوغان بمحوريته ومركزيته وتفرده في العدالة والتنمية، لا سيما بعد خروج عدد من القيادات البارزة والتاريخية منه؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى يصعب أن تلتف التيارات المتواجدة في الحزب على قائد جديد تدين له بالولاء والطاعة كما فعلت مع أردوغان، مما ينذر باحتمالات الخلاف والشقاق الداخلي، كما يحصل عادة لدى تبدل القيادة المؤسسة للأحزاب السياسية.
ما زال حزب العدالة والتنمية رقماً صعباً جداً في المشهد السياسي الداخلي في تركيا، وما زال يصعب الحديث عن أفوله تماماً من الحياة السياسية طالما بقي أردوغان رئيساً له وللبلاد، إلا أن حصاد السنوات القليلة الأخيرة وخصوصاً نتائج الانتخابات الأخيرة وما رافقها كل ذلك يقول: إن الحزب إن أراد الاستمرار في مسيرته عليه أن يواجه التحديات المذكورة وغيرها، وإلا أصبح مستقبله في مهب الريح، وتحولت الانتخابات المقبلة في عام 2028م بالنسبة له لاستحقاق «أكون أو لا أكون».