تعد الرغبة في تحقيق الذات غاية الشباب في كل زمان، لكنها الآن تزداد إلحاحًا مع المنافسة الكبيرة في ظل سوق عمل متطور وحياة متسارعة، ومن هنا ذاع علم «التنمية البشرية».. غير أن قلّة في عالمنا هي من تنبهت للقرآن الكريم المشكاة الربانية التي اقتبست عنها البشرية تزكية النفس وطريق السعادة –غير المزّيفة ولا المؤقتة- بمفهومها الذي يجمع الفرد بالأمة بالكون، ويبدأ بالدنيا لينتهي في الآخرة.
لسنا ضد علوم التنمية البشرية حين تنظم قواعد الفهم لأخلاقيات بناء النفس والحضارة، ولكن علينا ألا نغفل أن التقدم الغربي كان على مستوى المادة فقط في أغلب أحواله؛ وأنه قد يفاجئك في ذروة انبهارك بدعمه للقيم الشاذة والإلحادية والصهيونية!
في ظلال شجرة الحكمة الربانية التي لا ينفد مدادها، نسعى في السطور التالية للتوقف قليلاً أمام أمثلة لتزكية النفس في القرآن الكريم.
من القلب للجسد
تقوم الفلسفة الإسلامية على كون الفؤاد هو سيد الجوارح، ولهذا عرف العلماء أعمال القلوب الصالحة والمريضة، فكان ابن القيم رحمه الله يقول: «أعمال القلوب هي الأصل، وأعمال الجوارح تبع ومكملة، وإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح فموات».
على هذا الأساس، تقول باباتشيا فوكزار، الكاتبة الأمريكية والداعية: إن مفهوم التزكية القرآني أو تطهير القلب سبق كثيراً من علوم التنمية البشرية، فحين يكون القلب تلك المضغة الصغيرة صالحاً يصلح العمل كله، ولو كان فاسداً يفسد العمل كله، كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم.
تقول الكاتبة: علينا أن نستدعي من القرآن تلك الصفات التي اتسم بها العباد المقربون لله فهم موحدون لربهم يخشونه ويتقون غضبه، وهم يتفكرون في خلقه بما يخلق انسجاماً ويقيناً في داخلهم، وهم عابدون ومتطهرون وهم حامدون للنعم، ومحسنون لأنفسهم ولمن حولهم، مقسطون يحبون العدل، وهم متوكلون على ربهم بعد الأخذ بالأسباب، يتركون التنافس لما يستحقه بعيداً عن أمراض العصر نتيجة التصارع على الدنيا.. هل هذه تختلف عن مبادئ السعادة التي رسمتها كتب التربية البشرية.. قطعاً تفوقها!
لا تتبع هواك
في كتابه المهم «دستور الأخلاق في القرآن»، يؤكد د. عبدالله دراز مبادئ قرآنية منها الحض على التسامي على نزعات النفس وهواها دونما تفكير، من مثل قول الله تعالى: (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ) (ص: 26)، وهنا فإن الإنسان عليه إعمال عقله وضميره في كل ما يجد حوله، وهو جوهر الأخلاق التي تعزل الإنسان عن التردي والسقوط من بوابة الملذات العابرة، لكن ذلك مبني في الأساس على فطرة جعلها الله فينا للإحساس بالخير، حيث يقول تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس)، بل وزودها الحق ببصيرة أخلاقية؛ (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ {14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة).
ومن هنا أصبحنا أمام الحكمة (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى {40} فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات)، ليربطنا القرآن من جديد بالغاية الكبرى بعد الحياة وهي البقاء في دار الرضوان الأخروي.
وفي دنيانا نشاهد كيف سقط رجال أعمال وشخصيات مشهورة وانتهت حياتهم على نحو بائس لأنهم تمادوا في مزالق شهوة النفس.
الإحسان للنفس وللعالم
يعلمنا القرآن والسُّنة المطهرة ألا نعيش أفراداً، بل إخواناً، ألا نترك آباءناً تنهشهم الوحدة والإهمال، فجعل الإحسان لهم تالياً مباشرة لعبادة الله، علمنا ألا تضيع بيننا حقوق اليتامى والفقراء، فهي رقة القلب والتعاطف التي تتقلب بين النظر في الكون والإحسان للخلق.
يعلمنا القرآن ألا نعيش كأمة منعزلة بل نتعارف مع غيرنا من الأمم، وهو يعلمنا التضامن الإنساني بكل مستوياته وثمرته على النفس أولاً قبل الغير، يقول الله: (قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215).
أخلاقياً يعلمنا القرآن كيف نتحرى الصدق في حديثنا، وهي فضيلة امتلاك الشجاعة الأخلاقية التي تبنى بها الثقة، لقوله تعالى: (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً) (المائدة: 119).
في القرآن نتعلم كيف لا نميز بين أحد وآخر إلا بالتقوى في قلبه، وأن نتحرى أحسن الألفاظ حين نتحدث، أما إذا أساء إلينا أحد، فيعلمنا القرآن كيف نتحكم في مشاعرنا، تأمل قول الله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 134)؛ فهذه الطاقة من التسامح تعد مفتاحاً كبيراً للسعداء.
يعلمنا القرآن أيضاً أن تكون لدينا تلك الروح التي تشكر النعم وتشعر بها ولا تقنط من رحمة الله في الملمات والصعاب، يقول ربنا: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7).
التعلم والعمل بدأب
في كل كتب التنمية البشرية سترى قيمة مركزية للدأب والتعلم المستمر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله خير العلم وخير العمل، وجاء نصاً في القرآن في الحث على طلب العلم: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11).
يقول د. كفاح أبوهنود، في كتابه «فقه بناء الإنسان في القرآن»: لقد أودع القرآن سر بناء الإنسان، وقدم القرآن في ذلك منظومة متكاملة في صياغة القلب والعقل والسلوك، هل تدرك أننا قبل حدث تنزيل القرآن كنّا نزحف على حاشية الحضارات؟! لقد كان القرآن مع كل تنزّل يخيط للصحابة أثوابهم الجديدة، وينسج لهم أرواحاً من نوره، كان ينزع عنهم لباس الجاهلية الأولى مع كل سورة تتلى، ولقد أُشرب الصحابة القرآن في قلوبهم، حتى تنفسوه سلوكاً.