بحثاً عن العمل والمال والعلم، ومآرب أخرى، تفرض الهجرة نفسها كتحد رئيس يترك آثاره السلبية على الحياة الزوجية، والاستقرار الأسري، في كثير من المجتمعات التي ترتفع فيها معدلات الهجرة إلى الخارج.
وبحسب المنظمة الدولية للهجرة، وصل عدد المهاجرين في عام 2019م إلى 272 مليون شخص حول العالم؛ أي حوالي 3.5% من سكان العالم خارج بلادهم الأصلية.
ووفق بيانات صادرة عن المنظمة ذاتها، فإن الدول العربية سجلت حضوراً كبيراً بـ40 مليون مهاجر في العام نفسه، منهم 9.3 ملايين من اللاجئين؛ ما يعني أن غالبية المهاجرين في العالم العربي عبروا الحدود بحثاً عن فرص اقتصادية واجتماعية أفضل.
خبراء ينصحون بضرورة اصطحاب الزوجة خلال السفر إذا كان الأمر متاحاً
في المقابل، قد تتأثر الحياة الزوجية سلباً، جراء غربة الزوج، وقد يتسلل التفكك والاغتراب الزوجي إلى جدران البيت، مع طول سفر الزوج، وانقطاع العلاقة الزوجية، وتزايد التحديات والضغوط على الزوجة والأبناء.
«المجتمع» تبحث في هذا التحقيق عن روشتة علاج لإصلاح ما خلفته الغربة على أسرنا ومجتمعاتنا، وسط عالم تسوده المادية والاستهلاكية، وتتراجع فيه قيمة الأسرة والتلاحم الاجتماعي بشكل مخيف.
تجربة صعبة
تلخص السيدة فاطمة حسن وضعها في ظل غياب زوجها عنها منذ نحو 4 سنوات للعمل في المملكة الأردنية الهاشمية، بقولها: تخيل أن نصف قلبك يعيش في بلد آخر!
وتضيف أنها في البداية كانت تشجع زوجها على السفر لأنه ليس لديه عمل في مصر، وأنه لا طريق أمامهما لتعليم أطفالهما الثلاثة سوى الغربة، لكن الحقيقة التي واجهتها أن تربية الأولاد صعبة، وأنها تحتاج زوجها إلى جوارها، لمشاركتها همومها وأفراحها.
وتتحدث أخرى، متحفظة على ذكر اسمها، مشيرة إلى أن زوجها يعمل في أحد مصانع الجزارة، ويعود إلى سكنه آخر اليوم في حالة تعب وإرهاق، وفي أحيان كثيرة قد تمر أيام لا تستطيع الحديث معه فيها سوى دقائق معدودات، دون النظر لاحتياجاتها العاطفية والنفسية.
على الزوج الإكثار من الإجازات السنوية للتقليل من آثار الغياب الطويل
أما نادية علي فترى أن هناك جانباً إيجابياً للسفر، هو تأمين المال الوفير، وتحقيق مستقبل أفضل للأبناء، لكن في المقابل تفتر العلاقة الزوجية وتتباعد لفترات طويلة، ما يؤثر على الطرفين نفسياً وعاطفياً وجنسياً، بمعنى أن المال لن يجلب للزوجين كل شيء.
وتعترف إيمان محمود بتراجع مستوى أطفالها دراسياً وخلقياً، بسبب سفر الزوج لسنوات، وتحوله إلى مصدر للمال فقط، دون وجود قدوة في البيت، ومرجعية تربوية للأبناء، وهي ضريبة باهظة للسفر، لا يشعر بها سوى من عانى منها.
آثار سلبية
يشرح أستاذ علم الاجتماع في جامعة عين شمس علي عبدالستار، في حديثه مع «المجتمع»، طبيعة الآثار المترتبة على ابتعاد الزوج عن زوجته للعمل خارج البلاد، لافتاً إلى أنه يؤدي إلى مجموعة من التحديات التي تؤثر سلبًا على العلاقة بينهما، وأن أحد أهم هذه التحديات الشعور بالوحدة والاكتئاب؛ مما يؤثر على صحتهما النفسية والعلاقات الاجتماعية.
ويضيف أن من بين التحديات كذلك الفراغ العاطفي بين الزوجين، إذ يشعر كلا منهما بهذا الفراغ نتيجة الانفصال الجسدي، مما يؤدي إلى تدهور التواصل العاطفي والجنسي، لذلك يجب الإكثار من الزيارات المتبادلة والحرص على عدم الغياب الطويل حتى يتمكنا من تقوية علاقتهما وتعزيز الترابط الأسري، والاستعانة بالمتخصصين في مجال الاستشارات الأسرية في حالة تفاقم المشكلات بينهما.
أما أستاذ علم النفس في جامعة طنطا د. كامل الميداني، فيرى أن غياب الزوج عن زوجته لفترات طويلة قد يتسبب لها في أمراض نفسية معقدة؛ كالقلق والتوتر، وهو ما ينعكس على علاقتها بأولادها ومحيطها، لافتاً إلى أنه من المفهوم للجميع أن الرجل لم يغب عن زوجته برغبته، وإنما لأسباب اقتصادية في الغالب، لكن في المقابل يجب ألا يتحول الرجل إلى مجرد أداة لإشباع رغباته في جمع المال فقط، وإنما عليه أن يعي أنه مسؤول عن أسرة عليه، ومثلما يسعى إلى توفير المال لها عليه أيضاً أن يوفر لها الحماية من الأمراض النفسية، وأن يوفر لها ولأبنائه الحب والحنان.
حلول عملية
ومن جانبها، تؤكد الخبيرة الأسرية إنجي سعيد أن زوجة المغترب تتعرض للضغط النفسي الكبير نتيجة تحمل المسؤوليات المنزلية وتربية الأبناء بمفردها، بالإضافة إلى القلق على زوجها، مشيرة إلى أن غياب الزوج عادة ما يكون له تأثير سلبي على الأطفال، ويظهر ذلك في سلوكهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
من الخطر توفير المال فقط وتجاهل منح الأسرة الحب والتربية والحنان
وتضيف أن الحل في كتاب الله عز وجل، في قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21).
وتنصح سعيد بضرورة التواصل المستمر بين الزوجين خاصة في ظل تطور وسائل الاتصال، مؤكدة ضرورة أن يتم ذلك بشكل منتظم سواء عن طريق المكالمات الهاتفية أو الرسائل أو الفيديوهات، وأن يتم تحديد أوقات محددة للتواصل بشكل يومي أو أسبوعي، حتى يتمكنا من مشاركة تفاصيل حياتهما اليومية.
ويوصي الخبراء الذين تحدثوا لـ«المجتمع» بضرورة اصطحاب الزوجة خلال فترة السفر إذا كان الأمر متاحاً، فإذا تعذر فليكثر الزوج من الإجازات السنوية للتقليل من حدة وتبعات آثار الغياب الطويل عن زوجته، مع تحديد هدف للسفر، وبمجرد تحقيقه يجب العودة للم شمل الأسرة، وإشباع أفرادها؛ زوجة وأطفالاً من الحب والحنان والرعاية، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (متفق عليه).