إن ولي الأمر خليفة كان أو ملكاً أو سلطاناً أو أميراً أو والياً؛ إذا اعترضته واقعة أو حادثة لم يرد بحكمها نص أو إجماع، وليس لمحلها نظير نقيسه عليه، وجب عليه استنباط حكم لها بالجواز أو المنع، وسياسة الأمة به، إذا كان هذا الوالي أهلًا للاجتهاد، أو تكليف فقهاء الأمة المجتهدين باستنباط الحكم لها، وسياسة الأمة به، إذا لم يكن مجتهداً، وهذا الحكم هل يكون من باب السياسة الشرعية؟
للإجابة عن هذا السؤال يقول د، عبد العال عطوة: إن الحكم الذي يستنبط للواقعة التي لم يرد بحكمها نص لا يعتبر سياسة شرعية إلا إذا توفر فيه 3 شروط(1):
الأول: أن يكون متفقاً مع أحكام الشريعة، أو معتمداً على أصلاً من أصولها الكلية أو العامة:
نعني بأصول الشريعة الكلية أو العامة قواعدها الأساسية، التي يبني عليها الكثير من الأحكام، وتعتبر أصلاً ودليلاً لها، مثل سد الذرائع والعرف والشورى ورفع الحرج، ونفي الضرر والعدالة والحرية والمساواة والرجوع في معضلات الأمور إلى أهل الذكر والرأي والخبرة، إلى غير ذلك من القواعد العامة التي لا يشذ عنها قانون يراد به إصلاح الأمة.
كما نعني بأحكام الشريعة ما تهدف وتقصد إليه في جميع أحكامها التي جاءت بها من جلب المصالح للفرد والمجتمع، ودرء المفاسد والضرر عنهما، وهذه المصالح هي المعروفة باسم المصالح الضرورية، أو المقاصد الضرورية، وهي حفظ الدين، والنفس والعقل والنسل والمال والعرض.
والناظر في هذه الأحكام التي جاءت به الشريعة للمحافظة على هذه المقاصد، يلاحظ أنها قصدت أمرين؛ الأول: حفظها في أصل وجودها بتقوية أركانها، وتمكين قواعدها، والثاني: حفظ بقائها ونموها بحمايتها من عوامل الفساد وأسباب الانحلال، وإن كل حكم بني على قاعدة من هذه القواعد المذكورة، أو ما يماثلها من القواعد التي اعتبرها الشارع أساساً لاستنباط الأحكام، أو استهدف هذه الروح في أي مقصد من المقاصد الستة، فإنه يعتبر سياسة شرعية، وذلك لأن هذه القواعد قواعد محكمة، ثبتت بأكثر من نص، لا تقبل التغيير ولا التبديل، ولا تختلف باختلاف الأمم والعصور والأماكن والمجتمعات، ولأن تحقيق هذه المقاصد مصالح الناس هو الغرض الذي من أجله أنزلت الشرائع، فكانت من جنس ما جاءت به الشرائع.
الثاني: ألا يخالف الحكم دليلًا من الأدلة التفصيلية التي تثبت شريعة عامة دائمة للناس في كل الأحوال والأزمان والأماكن والمجتمعات:
ويتحقق هذا الشرط بأمرين:
1- عدم وجود دليل تفصيلي خاص في الواقعة أو الحادثة التي هي محل الحكم، وحينئذ لا توجد مخالفة أصلاً لنص أو إجماع أو قياس، فيعتبر الحكم المستنبط من باب السياسة الشرعية لعدم المخالفة، ومن أجل ذلك لم يكن ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه من جمع القرآن في مصحف واحد مخالفاً للشرع، بسبب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقم بهذا الجمع، ولا نهى عنه، وإنما اعتبر هذا الجمع من أبي بكر من باب السياسة الشرعية، لأنه لم يخالف نصاً من النصوص يمنع من جمعه، وهو مع ذلك متفق مع ما جاءت به الشريعة من وجوب المحافظة على القرآن.
ولم يكن ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه من إنشاء الدواوين وترتيبها وتنظيمها مخالف للشرع، بل اعتبر ذلك سياسة شرعية، لأنه لم يخالف نصاً أو إجماعاً يمنع من اتخاذ الدواوين، وهو مع ذلك متفق مع غرض تهدف إليه الشريعة، وهو ضبط المصالح وتنظيم الأعمال لتسير أمور الدولة وشؤونها سيراً منتظماً منضبطاً تتحقق به المصلحة العامة للأفراد والجماعات.
ولم يكن ما فعله عثمان رضي الله عنه من إحداث أذان جديد يوم الجمعة لإعلام الناس بالصلاة حين كثروا في أيامه، مخالفاً للشرع، بل اعتبر سياسة شرعية، لأنه لم يخالف نصاً أو إجماعاً يمنع من إنشاء هذا الأذان، ومع هذا فإنه يتفق مع غرض من أغراض الشرع، وهو جمع الناس لصلاة الجمعة.
ولم يكن ما فعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه من التفريق بين الشهود، وسماع كل شاهد على حدة في مجلس القضاء، مخالفاً للشرع، وإنما اعتبر ذلك سياسة شرعية يسير عليها القاضي إن رأى أن هذا التفريق يؤدي إلى استخلاص الحق، لأنه لم يخالف نصاً أو إجماعاً يمنع من التفريق بين الشهود، وهو مع ذلك متفق مع مبدأ تحرص الشريعة على تحقيقه، وهو الوصول إلى الحق بأي طريق، تحقيقا للعدالة، ورفعا الظلم.
2- وجود دليل تفصيلي خاص في الواقعة يخالف الحكم مخالفة ظاهرية لا حقيقية، بأن علم أن ما دل عليه الدليل التفصيلي لم يقصد بالحكم أن يكون شريعة دائمة، بل قصد به أن يكون شريعة مؤقتة، بأن كان مقيداً بوقت معين، أو بسبب خاص أو حالة خاصة، أو مرتبطاً بمصلحة معينة، أو كان معللاً بعلة غائية، أو مجارياً لعرف موجود وقت نزول التشريع، فإذا وجد هذا الدليل، فإن الحكم المخالف له إذا وجد ما يقتضيه عند انتهاء الوقت، أو تغير الأسباب والأحوال، أو انتهاء المصلحة، أو انتهاء العلة إلى غايتها، أو حدوث ظرف طارئ جديد، لا يعتبر مخالفاً لأدلة الشرع وأحكام الإسلام مخالفة حقيقية في الواقع ونفس الأمر؛ وإنما هي مخالفة ظاهرية فقط، دل عليها تغير ما قد تقيد به النص من وقت أو سبب أو حال أو مصلحة أو علة أو غيرها، ولعدم المخالفة الحقيقية حينئذ يعتبر الحكم من باب السياسة الشرعية، إذا وجد ما يقتضيه.
ومن أجل ذلك لا يعتبر من المخالفة لنصوص الشريعة ما فعله عثمان رضي الله عنه بضوال للإبل حين أمر بإمساكها وتعريفها، فإن جاء صاحبها وعرفها أخذها، وإلا بيعت وحفظ ثمنها ببيت المال إلى أن يظهر صاحبها، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع إمساكها، حيث قال لمن سأله عن ضالة الإبل: «ما لك ولها، معها سقاؤها وحذاؤها، ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها»، إلا أن عثمان أمر بإمساكها وتعريفها، ثم بيعها وحفظ ثمنها، وإن كان فيه مخالفة لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتركها حتى يلقاها ربها، إلا أن هذه المخالفة مخالفة ظاهرية لا حقيقية، لأن منع الرسول صلى الله عليه وسلم من إمساكها كان لعدم الخشية عليها من الضياع، إذ الأيدي لم تكن تمتد إليها بسبب مراقبة الناس ربهم، ولعدم الخشية عليها من الموت والهلاك، لأن معها سقاءها وحذاءها، وأمر عثمان رضي الله عنه بالإمساك كان بسبب الخشية عليها من الضياع، حيث رأى أن الحال قد تبدل، وامتدت الأيادي إليها، فالمنع من الإمساك كان للمصلحة، والأمر بالإمساك كان أيضا للمصلحة، فلم تكن هناك مخالفة حقيقية في الواقع ونفس الأمر(2).
الثالث: الاعتدال في تحقيق السياسة الشرعية بعيداً عن الإفراط والتفريط:
إن هذه السياسة لا تتحقق إلا إذا كانت في حدود الاعتدال، لأنها وسط بين التفريط والإفراط، فإذا مالت إلى أحدهما كانت مذمومة ظالمة، وحينئذ تخرج عن نطاق السياسة الشرعية التي تتوخى العدل في أحكامها إلى السياسة الظالمة التي تتنافى مع شريعة الإسلام.
والتفريط في العمل بالسياسة معناه: عدم الالتجاء إليها وتطبيق أحكامها فيما يجد من وقائع لم يرد بحكمها نص أو إجماع أو قياس، أو التي من شأنها أن تتغير وتتبدل تبعاً لتغير الظروف والمصالح، ومعنى هذا أن تبقى هذه الوقائع بدون أحكام، وهذا وصف للشريعة بالقصور والجمود، وعدم تلبيتها لمطالب الحياة المتجددة.
والإفراط في الأخذ بالسياسة معناه: أن يتجاوز العمل بها حدود ما تقتضيه المصلحة، ويستقر به العدل والنظام، وهذا التجاوز يجب أن يتنزه عنه ولاة الأمور في تدبير شؤون الأمة، ونضرب بعض الأمثلة على ذلك:
فمن التفريط في الأخذ بالسياسة أن يقصر القاضي نظره في إثبات الدعاوى والتهم على الشهادة والإقرار والنكول عن اليمين، ولا يأخذ بالقرائن والأمارات ودلالة الأحوال، مع أنها قد تكون في الدلالة على الحق والعدل أقوى من أحد هذه الأدلة الثلاثة، فإن من يرى قتيلا يتخبط في دمه، ورجلا يقوم على رأسه، أو يعدو يريد الهرب، وفي يده سكين تقطر دماً، لا يكاد يتردد في أنه هو القاتل، وبخاصة إذا كان معروفاً من قبل بعداوته للقتيل، وحينئذ فمن الجمود والتهاون في تحقيق مقاصد الشريعة عدم الأخذ بهذه القرائن والأمارات، فيمكن صاحب السكين من الإفلات من العقوبة بناء على إنكاره القتل، وعدم وجود شهود يشهدون به.
ومن التفريط في الأخذ بالسياسة: الاعتماد على إقرار المدعى عليه أو المتهم في جريمة بأنه لم يرتكبها مع قيام القرائن والأمارات التي توجب شبهة في هذا الإقرار، ويدل على ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حكومة سليمان عليه السلام في حادثة الولد الذي تنازعته امرأتان، وقد حكم به داود عليه السلام للكبرى، لأنه كان في يدها، وكان ولدها قد اختطفه الذئب، فادعت أن الذي أخذه الذئب ولد الأخرى، فلم يطمئن سليمان لهذا الحكم، وقال ائتوني بسكين أشقه بينهما، فسمحت الكبرى بذلك، وقالت الصغرى: لا -يرحمك الله-، هو ابنها، فقضى به للصغرى، فلم يعتبر سليمان إقرار الصغرى التي اعترفت بالولد للكبرى نظرا إلى دلالة القرينة والحال، فقد استدل برضا الكبرى بشق الولد، وعدم رضا الصغرى بذلك شفقة على الولد، على أن الصغر أمه، على الرغم من إقرارها بأنه ليس لها، وإنما هو الكبرى، فهذه القرائن والأمرات يجب التعويل عليها والحكم بما تدل عليه من باب السياسة الشرعية، ما لم يكن هناك دليل آخر أقوى منها يدل على خلاف ما دلت عليه.
ومن الإفراط في السياسة الشرعية: أن يتجاوز ولي الأمر حدود عقوبة المجرم إلى عقوبة أهله وأقربائه، أو يقبض على أقارب المتهم، فيحبسهم ويؤذيهم ليحمله بذلك على الإقرار بالجريمة، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.
___________________________
(1) المدخل إلى السياسة الشرعية: د. عبد العال أحمد عطوة، ص 71.
(2) نيل الأوطار: الشوكاني، (5/ 287).