يظن البعض أن القوة المنشودة في الإسلام هي الزيادة المفرطة في أداء الشعائر التي تزيد الإيمان في القلب مع عدم الاهتمام بالجسد، بل مع الحرص على إضعافه بزعم أن ذلك يكسر شهوته ويقوي إيمانه، لكن الحقيقة التي يربي الإسلام أتباعه عليها أن القوة المطلوبة هي القوة الجامعة لصفات الخير والساعية إلى تحقيق العدل والنماء في دنيا الناس، ولذا فإنها لا تقتصر على جانب واحد من جوانب القوة، وإنما تتسع لتشمل قوة الإيمان والأبدان والعلوم النافعة للإنسان.
الله أمر المؤمنين بإعداد القوة
لقد أمر الله تعالى المؤمنين بإعداد القوة، وهي القوة البدنية والمهارية التي تعينهم على مواجهة عدوهم، حيث قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).
الأنبياء والرسل موصوفون بقوة الأبدان
إن الله تعالى حين تحدث عن أنبيائه في القرآن الكريم ذكر أنهم موصوفون بالقوة، فعندما وصفت بنت الرجل الصالح سيدنا موسى عليه السلام قالت: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص: 26).
أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فكان من أقوى الناس وأشجعهم، في قوة الإيمان والبدن، فقد روى أحمد في مسنده عَنْ عَلِيٍّ بن أبي طالب قَالَ: «كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ (أي اشتدت الحرب) وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى إِلَى الْقَوْمِ مِنْهُ».
وروى البخاري ومسلم في غزوة حنين حين فر أكثر الصحابة من المعركة، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يدفع بغلته تجاه العدو وهو يقول: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ»، قال البراء بن عازب: فَمَا رُئِيَ مِنْ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.
ولم تكن قوته البدنية صلى الله عليه وسلم بادية وظاهرة في الحرب فقط، بل كان سمتاً عاماً له عليه الصلاة والسلام، فقد روى أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: ما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الأرض تطوى له، وروى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صارع أبا الأشد الجمحي واسمه كلدة فصرعه، وبلغ من شدة أبي الأشد أنه كان يقف على جلد البقر ويجاذبه عشرة من تحت قدميه، فيمزق الجلد من تحته ولا يتزحزح.
وكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه ببعض الرياضات التي تقوي الأبدان ويمارسها معهم ويعقد بينهم فيها المسابقات، ومن ذلك أنه كان يأمر أصحابه بالرمي، ففي صحيح الجامع عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «عليكم بالرمي فإنه من خير لعبكم».
وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: مَرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى نَفَرٍ مِن أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ، فإنَّ أَبَاكُمْ كانَ رَامِيًا ارْمُوا، وأَنَا مع بَنِي فُلَانٍ» قالَ: فأمْسَكَ أَحَدُ الفَرِيقَيْنِ بأَيْدِيهِمْ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «ما لَكُمْ لا تَرْمُونَ؟»، فَقالوا: يا رَسولَ اللَّهِ نَرْمِي وأَنْتَ معهُمْ، قالَ: «ارْمُوا وأَنَا معكُمْ كُلِّكُمْ».
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيم المسابقات بين بعض شباب الصحابة الاختبار قوة الأبدان من أجل إجازتهم للقتال معه في غزوة «أحد»، ففي تاريخ الطبري، لما خرج رسول الله إلى أُحُد وعرض أصحابه، فردَّ من استصغر، فردّ رافع بن خديج وسمرة بن جندب، فقال رافع: إني رام يا رسول الله (يعني أجيد الرمي)، فأجازه صلى الله عليه وسلم، فقال سمرة بن جندب: يا رسول الله أجزت رافع بن خديج ورددتني، وأنا أصرعه، فقال النبي لرافع وسمرة: «تصارعا»، فصرع سمرة رافعًا، فأجازه رسول الله فشهد الغزوة مع المسلمين.
الشعائر التعبدية تأخذ بيد فاعلها إلى قوة البدن
إن الناظر إلى الشعائر التعبدية يجد أن بعضها يؤسس لقوة البدن، فالصلاة مثلاً يصليها المسلم قائماً، ولا يلجأ إلى القعود إلا مضطراً، وكذلك يؤدي ركوعها وسجودها وجميع حركاتها المقوية للبدن ما دام مستطيعاً لذلك، وذلك مرات متتالية ومتعددة في اليوم الواحد.
وكذلك الحج والعمرة، فقد شرع الإسلام في الطواف سنتي الرمل والاضطباع لإظهار القوة، قال ابن إسحاق: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العمرة في سنة سبع من الهجرة سمع به أهل مكة وتحدثت قريش أن محمداً وأصحابه في عسرة وجهد وشدة، فخرجوا واصطفوا عند دار الندوة، لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، اضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى، ثم قال: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة»، ثم استلم الركن، وخرج يهرول، ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليماني، مشى حتى يستلم الركن الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها، فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحي من قريش، للذي بلغه عنهم، حتى حج حجة الوداع، فلزمها، فمضت السُّنة بها.
قوة الإيمان تسهم في تقوية الأبدان
كلما قويت علاقة المسلم بربه في دوام توبته واستغفاره وحفظ نفسه وجوارحه عن المعصية أدى ذلك إلى قوة بدنه وحفظ جوارحه؛ لأن الله تعالى يقول: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود: 52).
الإسلام ينفر أتباعه من العجز والكسل ويدعوهم إلى العزم والقوة
لقد دعا الإسلام أتباعه إلى الاستعاذة من العجز والكسل، ففي الجامع الصغير عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قُلْ إذا أصبَحتَ وإذا أمسَيتَ: اللهم إني أعوذُ بكَ منَ الهمِّ والحزَنِ، وأعوذُ بكَ منَ العجزِ والكسلِ، وأعوذُ بكَ منَ الجُبنِ والبخلِ، وأعوذُ بكَ مِن غلبةِ الدَّينِ وقهرِ الرجالِ»، وروى أحمد في مسنده أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بقوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ».
اهتمام الإسلام بالصحة العامة من أجل تقوية الأبدان
لقد حرص الإسلام على بناء الجسم الإنساني بناء سليماً، بحيث يبقى في قوة وصحة، ولهذا حث الله تعالى على الاعتدال في الطعام والشراب، فقال: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وروى الترمذي عن المقدام بن معدي كرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما ملأَ آدميٌّ وعاءً شرًّا مِن بطنٍه، بحسبِ ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقمنَ صُلبَهُ، فإن كانَ لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِهِ وثُلثٌ لشرابِهِ وثُلثٌ لنفَسِهِ».
مثال من القرآن على جمال التقاء قوة الإيمان مع قوة الأبدان
إذا التقت قوة الإيمان مع قوة الأبدان فإنها تسهم في إحقاق الحق وإبطال الباطل، حيث يترتب على ذلك أمان الخائفين، وعون المحتاجين ومواجهة المجرمين، بل والنهوض الحضاري للناس أجمعين.
ومثال ذلك من القرآن الكريم، ففي قصة ذي القرنين الذي جمع الله له قوة الإيمان مع قوة البدن، فقال في شأنه: (وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً {83} إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (الكهف: 83)، لقد جمع الله له القوة الفاعلة، فاستطاع من خلالها أن يرفع الظلم عن المظلومين، وأن يكون رادعاً للظالمين، ومقوياً للعاجزين، ومنشطاً للكسالى والخاملين، وناشراً لروح التعاون والتضامن بين الناس أجمعين.