ركيزة من ركائز الإسلام، وسر من أسرار قبول العمل الصالح، وعمل لا ينهض للقيام به إلا العظماء من الناس، إنه صدق النية وإخلاصها فقد قال سفيان الثَّوريِّ: ما عالجتُ شيئاً أشدَّ عليَّ من نيَّتي؛ لأنَّها تتقلَّبُ عليَّ(1)، وعن عبد الله بن المبارك قال: رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ، وربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ(2).
1- النية أصل صلاح العمل وسر قبوله:
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ وإنَّما لِكلِّ امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ فَهجرتُهُ إلى اللَّهِ ورسولِهِ ومن كانت هجرتُهُ إلى دنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينْكحُها فَهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليْهِ»، ففي الحديث بيان لأثر النية في تصحيح الأعمال أو إفسادها، وفي قبول الأعمال أو ردها، فالنية أصل صلاح العمل وسر قبوله.
2- على النية مدار الأجر ومقداره:
يسهم صدق النية في تحصيل الأجر وتعظيم مقداره، فرب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية، فقد أخرج الترمذي عن أبي كبشة الأنماري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّما الدُّنيا لأربعةِ نفرٍ عبدٍ رزقَهُ اللَّهُ مالًا وعلمًا فَهوَ يتَّقي ربَّهُ فيهِ ويصلُ فيهِ رحمَهُ ويعلمُ للَّهِ فيهِ حقًّا فَهذا بأفضلِ المنازلِ وعبدٍ رزقَهُ اللَّهُ علمًا ولم يرزقْهُ مالًا فَهوَ صادقُ النِّيَّةِ يقولُ لو أنَّ لي مالًا لعملتُ بعملِ فلانٍ فَهوَ بنيَّتِهِ فأجرُهما سواءٌ وعبدٍ رزقَهُ اللَّهُ مالًا ولم يرزقْهُ علمًا يخبطُ في مالِهِ بغيرِ علمٍ لا يتَّقي فيهِ ربَّهُ ولا يصِلُ فيهِ رحمَهُ ولا يعلمُ للَّهِ فيهِ حقًّا فهو بأخبَثِ المنازلِ وعبدٍ لم يرزقْهُ اللَّهُ مالًا ولا علمًا فَهوَ يقولُ لو أنَّ لي مالًا لعملتُ فيهِ بعملِ فلانٍ فَهوَ بنيَّتِهِ فوزرُهما سواءٌ».
3- سر التفاضل في الدرجات والمنازل:
من صدق في نيته وأخلص فيها لله تعالى؛ علَت درجته، وزاد ثوابه، وعظم أجره، وارتفعت منزلته. فعن أبي بكر المزني قال: ما فاق أبو بكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه(3).
4- سر عون الله للعبد وسبب للنجاة من المحن:
روى البخاري عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.. وانطلق كل واحد منهم يذكر عملاً صالحاً بينه وبين ربه، ثم يقسم على الله به أن هذا العمل كان بنية صادقة بينه وبين الله، فما فرغوا من دعائهم حتى فرّج الله عنهم.
5- حصول ثواب العمل وإن حدث خطأ غير مقصود:
أخرج البخاري عن معن بن يزيد قال: كانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ في المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فأخَذْتُهَا، فأتَيْتُهُ بهَا فَقالَ: واللَّهِ ما إيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إلى رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقالَ: «لكَ ما نَوَيْتَ يا يَزِيدُ، ولَكَ ما أَخَذْتَ يا مَعْنُ».
6- قد تبلغ بصاحبها ما لا يبلغه العامل بعمله:
قال الله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (النساء: 100)، إنه لم يهاجر، لكنه نوى الهجرة فنال ثوابها، وفي صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزاة، فقال: «إن أقواماً بالمدينة خلفنا، ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر»؛ قال ابن حجر: في الحديث أن المرء يبلغ بنيته أجر العامل، إذا منعه العذر عن العمل(4)، وأخرج مسلم عن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سألَ اللَّهَ الشَّهادةَ صادقًا بلَّغَه اللَّهُ منازلَ الشُّهداءِ وإن ماتَ علَى فراشِه».
7- تحول العادات إلى عبادات يؤجر الإنسان عليها:
أخرج البخاري، ومسلم عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك»، قال النووي: في الحديث أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة، ويثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله، والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطاً، والاستمتاع بزوجه ليكف بصره عن الحرام ويقضي حقها، وليحصل ولداً صالحاً(5).
8- سبب في توحيد الصف وجمع الكلمة:
إن صاحب النية الصادقة يحرص على طهارة قلبه وإخلاص عمله وتحقيق الغاية التي هي إرضاء ربه، وهو بهذه الحالة لا يضره إن كان عمله ظاهراً أو خفياً، أو تحدث عنه الناس أو سكتوا، وهذه الحالة تسهم في توحيد الصف وجمع الكلمة، حيث تنتفي الأغراض الشخصية، وهذا هو الذي مدحه الإسلام، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ، كانَ في الحِرَاسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ».
9- تستنقذ صاحبها من الزلل:
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف: 201)، فمن صحت نيته لزم الصواب وعاد إليه إن أخطأ، قال داود الطائي: البِرُّ هِمَّةُ التَّقيِّ، ولو تعلَّقت جميع جوارحه بحبِّ الدُّنيا لردَّته يوماً نيَّتُهُ إلى أصلِهِ(6).
10- النية هي التي يحشر عليها المرء ولو كانت بخلاف ظاهر عمله:
يوضح ذلك أن من أكرهه الكفار على الكفر فهو غير محاسب بظاهر عمله طالما أن قلبه عامر بالإيمان، حيث قال تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ) (النحل: 106)، والمشهور في سبب نزولها ما روي أن المشركين أخذوا عماراً بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه، فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «ما وراءك؟»، قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير قال: «كيف تجد قلبك؟»، قال: مطمئناً بالإيمان، قال: «إن عادوا فعد»(7).
وروى البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يَغْزُو جَيْشٌ الكَعْبَةَ، فإذا كانُوا ببَيْداءَ مِنَ الأرْضِ، يُخْسَفُ بأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ»، قالَتْ: قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، كيفَ يُخْسَفُ بأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ وفيهم أسْواقُهُمْ ومَن ليسَ منهمْ؟ قالَ: «يُخْسَفُ بأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ علَى نِيَّاتِهِمْ».
______________________________
(1) حلية الأولياء: الأصفهاني (5/ 7).
(2) جامع العلوم والحكم (1/ 69).
(3) المرجع السابق (1/ 235).
(4) فتح الباري (6/ 47).
(5) شرح النووي (11/ 71).
(6) جامع العلوم والحكم (1/ 69).
(7) رواه الحاكم (2/ 357)، وقال صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.