قال حزم بن مهران: سمعت رجلًا سأل الحسن البصري، فقال: يا أبا سعيد، ما تقول في دعاء الوالد لولده؟ قال: نجاة، وقال بيده هكذا -كأنه يرفع شيئًا من الأرض- قال: فما دعاؤه عليه؟ قال: استئصال، وقال بيده كأنه يخفض شيئًا(1).
وروى الذهبي في ترجمة سليم بن أيوب الرازي أنه حكى عن نفسه: أنه ذهب وهو صغير إلى شيخ يحفظه القرآن، فطلب منه أن يقرأ الفاتحة، قال فعجزْت لعجمة لساني، فقال لي الشيخ: هل لك من أم؟ قلت: نعم، قال: فاسألها أن تدعو لك أن يحفظك الله القرآن ويعلمك العلم، فرجعت إلى أمي فسألتها ذلك، فدعت لي، فيسر الله تعالى له أن يدخل بغداد فيتعلم العربية ويحفظ القرآن والحديث، ويتفقه على علماء الشافعية في العراق، حتى صار إماماً، ثم رجع إلى بلاده فجلس يعلم الناس(2).
نعمة الأولاد
إن من أعظم نعم الله تعالى على عباده أن وهبهم الأولاد والذرية، فقد قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل: 72)، وقال عز وجل: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ {49} أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى)، وأكد الله تعالى أن الأولاد من زينة الحياة الدنيا، حيث قال تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الكهف: 46).
الانشغال بالأولاد فطرة بشرية
لقد أكد الله تعالى أن الانشغال بالأولاد والخوف عليهم يعد من الفطرة البشرية التي لا يعاب الإنسان عليها ولا يذم بها، ما لم تشغله عن التكاليف التي أمره الله بها، فقد صرح الله تعالى في كتابه بهذه الفطرة فقال: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) (النساء: 9)، فقد تحدثت الآية عن الخوف على الذرية والانشغال بحالها، ولفتت النظر إلى الواجب على المسلم تجاه هذه الفطرة دون أن يكون هناك ذم أو عتاب على ذلك.
أما إذا خرج الأبناء عن الحد المعقول وكفروا بالله تعالى فليس لهم نصيب من الرحمة والنجاة من العذاب بشفقة الآباء ودعائهم، حيث حسم الله تعالى ذلك بما أكده في قصة ابن سيدنا نوح عليه السلام، حيث قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45} قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود).
أما المؤمنون من الأبناء فقد أشبع الله فطرة الآباء في نجاتهم، حيث وعد الله من حرص على التربية الصالحة على الإيمان لذريته أن يلحق الله به ذريته في الجنة، ويكون ذلك من نعيم الجنة الوافر، حيث قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: 21).
الاقتداء بالأنبياء في الدعاء للأبناء
لقد أرسل الله تعالى رسله ومنّ عليهم بالأزواج والذرية، حيث قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) (الرعد: 38)، وكان من دأب الرسل الكرام أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالدعاء أن يرزقهم الله الذرية الطيبة، فعندما دخل سيدنا زكريا عليه السلام على السيدة مريم، ووجد عندها من الخير والآيات الباهرة، دعا ربه قائلاً: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران: 38).
وقد أوضح الله تعالى أن هذه الفطرة دفعت الأنبياء إلى الدعاء لذريتهم، وذلك حين قص قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن ترك زوجه هاجر وابنه إسماعيل في واد غير ذي زرع، حيث بيّن تعالى انشغال إبراهيم بولده، من خلال إلحاحه في الدعاء، قال الله تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37)، بل إن الآية التالية تبين لنا أن في قلب سيدنا إبراهيم عليه السلام الكثير والكثير بخصوص هذه الذرية، وقد أوكل ذلك لعلم الله تعالى، والذي يؤكد هذا المعنى هو وجود آية عجيبة تكشف عن هذه الحال بين الآية السابقة والآيات التي بعدها في حمد الله تعالى على الذرية والدعاء لها، حيث قال تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء {38} الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء {39} رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) (إبراهيم).
ودعت امرأة عمران فقالت لربها عز وجل: (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران: 36).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأبنائه، حيث روى أبو داود عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: «اللهم باركْ لنا في أسماعِنا وأبصارِنا وقلوبِنا وأزواجِنا وذرياتِنا وتبْ علينا إنك أنت التَّوابُ الرحيمُ»، وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوِّذ الحسن والحسين، ويقول: «إن أباكما كان يعوِّذ بها إسماعيل وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة».
التحلي بصفات عباد الرحمن في الدعاء للأبناء
لقد ذكر الله تعالى صفات عباد الرحمن في سورة «الفرقان»، وذكر منها أنهم يدعون لأبنائهم بصلاح الحال، حيث قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان: 74).
إن المؤمنين يحرصون على الدعاء للأبناء، حيث ذكر الله تعالى ذلك في قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15).
النهي عن الدعاء على الأولاد
روى أحمد وأبو داد عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث دَعَوَات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم»، فدعوة الوالد مستجابة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم الآباء أن يدعو أحدهم على ولده، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم».
إن الدعاء للأبناء بصلاح الحال وحسن المآل واجب على الآباء، فإن هذا من حقوق الأبناء على الآباء، ويجب أن يجعل الأبناء من أنفسهم قرة عين للآباء حتى تشتعل قلوبهم وتلهج ألسنتهم بالدعاء للأبناء في كل الأحوال.
_______________________
(1) مسند عبدالله بن المبارك، ص 131.
(2) سير أعلام النبلاء (13/ 265).