لدى كل أمة رجال رسموا تاريخها وأمجادها، فكانوا كالنجوم في سمائها، ومن هؤلاء الرجال في أمتنا الإسلامية الصحابي الأنصاري عبادة بن الصامت، هذا الرجل الذي بايع الرسول ﷺ على ألا تأخذه في الله لومة لائم، وصدق ما عاهد الله ورسوله عليه، فكان اسماً لامعاً بين الصحابة، إذ تمتع بمكانة كبيرة، فكان القائد والسفير والمعلم والمفسر والقاضي، فضلاً عن كونه راوية للحديث، وكتب الحديث تحوي الكثير من أحاديثه، وله العديد من التلاميذ في الشام ومصر وفلسطين.
اسمه ولقبه وكنيته
عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر ابن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف، ابن الخزرج الأنصاري، السالمي الخزرجي، ويكنى أبا الوليد الأنصاري.
صفته وهيبته
كان عبادة عربياً قحاً، أسمر اللون، جميلاً طويلاً، جسيماً ضخماً، قال الوليد بن عبادة: كان أبي رجلاً طوالاً جسيماً جميلاً، وقال عنه النووي في تهذيب الأسماء: كان فاضلاً خيراً جميلاً طويلاً جسيماً، وقال سعيد بن عفير: كان طوله عشرة أشبار.
سبْقه إلى الإسلام ومنزلته
عبادة بن الصامت أحد السباقين إلى الإسلام، ومن أوائل الأنصار الذين أعلنوا إسلامهم في السنة العاشرة من البعثة النبوية، وهم الذين شهد الله سبحانه وتعالى لهم بكمال الإحسان، وقد عاش عبادة في أفضل عصور الإسلام على الإطلاق، فهو قد عاصر أحداث النبوة برمتها، إذ كان من السابقين إلى الإسلام، فشهد نزول الوحي على النبي ﷺ، وعرف أسرار التأويل وأدرك مرامي الشريعة، وحضر المشاهد كلها مع الرسول، وحاز فضل السبق من كل نوع من أنواع الخير، فجمع بين فضيلة الصحبة عموماً وميزة مشاهير الصحابة خاصة، واصطبغ بصبغة الإسلام النقية وذاق حلاوته الشذية، ثم عاش عبادة بعد النبي ﷺ في أزهى وأرفع فترة زمنية، إلى أن توفي قبيل استشهاد عثمان (رضي الله عنه) بعد عام واحد، وذلك بعد أن شارك في أعمال الإسلام الكبرى، فكان (رضي الله عنه) جامعاً للصفات الفاضلة، فهو رجل عدل ومن سادات الصحابة وكبار عدولهم، وفقيه الصحابة.
وعبادة ذو منزلة عالية بين صحابة النبي ﷺ لأنه شهد المشاهد كلها مع رسول الله، فهو من جماعة بيعة العقبة الأولى والعقبة الثانية، ومن أهل بدر وأحد والخندق، ومن أهل بيعة الرضوان، وهو أحد الشجعان المشهورين والفصحاء المتكلمين، وهو فقيه مرموق بين الصحابة وهو من العدول.
دعوته ونشاطه العلمي
كان عبادة أحد أولئك الذين بايعوا الرسول ﷺ ليلة العقبة ثم قدموا إلى المدينة فنشروا الإسلام فيها، حتى إنه لم يبق بيت من بيوت المدينة إلا وفيه ذكر رسول الله، وتابع عبادة مهمته في نشر الإسلام في الشام وفلسطين ومصر، فلم يكن حرصه على جهاد العدو أقل من حرصه على تبليغ الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وكان عبادة ممن جمع القرآن على عهد رسول الله، وتولى رضي الله عنه تعليم القرآن في عهد النبي ﷺ وما بعده، وقد اهتم عبادة رضي الله عنه بدراسة القرآن واستنباط الأحكام الفقهية منه، كما اهتم أيضا بتفسيره.
تعلـم القـرآن
بما أن عبادة هو من المسلمين الأوائل فقد نهل من الرسول الكريم ﷺ العلوم الكثيرة، وخاصة ما يتعلق بالقرآن وأحكامه، لذلك كان عبادة يعلم أهل الصفّة، وأهل الصفة “كانوا أناساً فقراء على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا منازل لهم ولا عشائر ينامون -في المدينة- في المسجد ويظلون فيه، وكانت صفة المسجد مثواهم فنسبوا إليها”، ولذلك كانت مهمة هذا الصحابي الجليل تعليمهم كل ما يتعلق بالقرآن، وقد أوصاه الرسول ﷺ بأن يكون تعليمه لأهل الصفة بدون مقابل، فعندما أهداه أحدهم قوساً قال له الرسول ﷺ: «إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها»، ولذلك كان تعليمه لأهل الصفة هو طاعة ومحبة لله ولرسوله، ولاهتمام عبادة بالقرآن الكريم وحفظه له، فهو من ضمن الخمسة من الأنصار الذين جمعوا القرآن الكريم في عهد الرسول ﷺ ولما فتح المسلمون الشام أرسله الخليفة عمر بن الخطاب إلى حمص ليعلمهم القرآن ويفقههم بأمور الدين.
روايـة الحديـث
رغم معرفة المسلمين لعبادة بتعليمه للقرآن وما يتعلق به من أحكام، فقد كان من رواة الحديث المشهورين أيضاً، وكان شديد التمسك بالسنة، كثير التعلق والمحبة بالنبي ﷺ، وبهذه المحبة لرسول الله ﷺ وبحافظته القوية عظم اهتمامه برواية الحديث عن النبي، لذلك روى عنه الكثير من الصحابة والتابعين، ومنهم أبو أيوب الأنصاري وعمرو بن الأسود السكوني، وروح بن زنباع وأبناءه الوليد وداود وعبيد الله، فضلاً عن حفيداه يحيى وعبادة أبناء الوليد، وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وهما من أقرانه، وعبد الله بن محيريز بن جنادة بن عبيد، وفضالة بن عبيد، وأوس بن عبد الله الثقفي، والمقدام بن عمرو بن معدي كرب، وأبو أمامة الباهلي، ورفاعة بن رافع، وشرحبيل بن حسنة، ومحمد بن الربيع، والصنابحي ومجموعة من التابعين، كما روى عنه جنادة بن أبي أمية، وأبو تميم الجيشاني، وعبد الرحمن بن عُسَيْلة الصنابحي، ومسلمة بن شُريح التجيبي وغيرهم من أهل مصر، وهذا يعني أن لعبادة تلاميذ في مصر وآخرين في الشام، أثناء وجوده في هذين البلدين، فبعد فتح مدينة حمص بقي فيها واختط داراً له، كما استقر في بلاد مصر حيناً في الفسطاط، وآخر في الإسكندرية، وكان في هذه الأثناء راوية للحديث ومعلماً.
ومما يوضح إسهام الصحابي عبادة بن الصامت في رواية الحديث النبوي الشريف، أن معظم مصنفات الحديث قد ضمت أحاديث نبوية شريفة كثيرة في عددها ومتنوعة في أحكامها، وهي جميعها مسندة إليه، مما يشير إلى الدور البارز الذي كان فيه هذا الصحابي أيام النبي وملازمته له، إذ إن معظم تلك الأحاديث كانت تتقدمها ألفاظ دالة على اللقاء المباشر مع النبي من خلال ألفاظ الرواية: سمعت رسول الله قال رسول الله ﷺ، كنا مع رسول الله ﷺ، حيث يورد الخبر كشاهد عيان وهذا ما حصل في بيعته للرسول في العقبة وهي بيعة النساء، وفي يوم عرفة إذ كان عبادة مع الرسول في ذلك اليوم ونقل ما حدث هناك، فضلاً عن يوم حنين، كما اهتم عبادة بالتفسير أيضاً فتورد لنا بعض المصادر أن عبادة فسر بعض آيات الذكر الحكيم، وكان تفسيره لهذه الآيات عن الرسول ﷺ فهو يسأل الرسول ﷺ أو يوضح أن الآية كانت بسبب موقف ما.
القضاء
تُبين الأحكام التي أوردها عبادة في الأحاديث النبوية المروية عنه بأنه كان على علم واسع في الفقه الإسلامي وأحكام الشريعة، وقد تّولى عبادة القضاء في حمص وقنسرين وصلاتهما، ولما قدم عبادة على أهل حمص قام في الناس خطيباً فحمد الله وصلّى على النبي ﷺ ثم قال: «أما بعد، إلا إن الدنيا عَرَض حاجز، يأكل منه البر والفاجر، إلا وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك قادر، ألا وإنكم معروضون على أعمالكم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، إلا وإن للدنيا بنين وللآخرة بنين، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن كل أم يَتْبَعُها بنوها يوم القيامة»، وهنا حثّ عبادة الناس على ترك مطامع الدنيا والعمل على الفوز بالآخرة، وبقي عبادة مدة ثم ذهب إلى فلسطين ليتولى القضاء فيها، وهو أول قاضي تولّى القضاء هناك حتى وفاته عام 34هـ.
لم يقتصر عبادة على التفوق والسبق في الشؤون العسكرية والسياسية والدستورية، والمساهمة في مصالح الدولة الإسلامية العامة، وإنما كان عالي القدر رفيع الشأن والكعب في مجال العلم والمعرفة، فاستحوذ على أقدس الاختصاصات العلمية في عصره في ثلاث نواح: تفسير القرآن، ورواية الحديث والأخبار، وفقه الأحكام الشرعية، واستنباطها من أدلتها والإفتاء فيها برأيه، إن لم يجد نصاً صريحاً في الواقعة المسؤول عنها.
هذه سيرة شذية عبقة لرجل من رجالات الإسلام العظام، تربوا في مهد النبوة، وانطلقوا يفتحون الدنيا شرقاً وغرباً بعقلهم وذكائهم وسلوكهم الحميد وعزيمتهم القعساء، وإيمانهم الصلب الذي لا يتزعزع.