انظر إلى الأمام أو الخلف، أو اليمين والشمال، بل أعد النظر مرات ومرات، في كل اتجاه وفي أي سبيل، وابحث عن فكر أو منهج أو نظام يحترم العقل الإنساني ويؤسس بنيانه على التقدير والاحترام والتفعيل والتبجيل؛ فإنك لن تجد ذلك إلا في الإسلام، فقد أسس النظر إلى العقل بصورة ترفع مقامه وتضبط مساره، حتى يَسلَم من الأهواء ويؤسس حضارة تتجاوز الفضاء، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: رفض الظن في موضع اليقين:
إن العقل الإسلامي يرتكز على رفض الظن في كل موضع يُطلب فيه اليقين، كما في مقام تأسيس العقائد التي تقوم عليها نظرة الإنسان إلى الوجود؛ إلى الله والكون والإنسان والحياة، فهذه القضايا الكبرى لا يكفي فيها الظن، بل لا بد فيها من العلم؛ أي العلم اليقيني.
ومن هنا أنكر القرآن الكريم على المشركين اتباعهم الظن في هذه القضايا، حيث قال عز وجل: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (يونس: 36)، وقال تعالى: (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (النجم: 28).
بل أكد القرآن الكريم أن ضلال الأكثرية من الناس كان بسبب اتباع الظن، حيث قال عز وجل: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام: 116)، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص: 50).
ثانياً: عدم اتباع الأهواء والعواطف في مجال العلم:
لا يقبل البناء الإسلامي للعقل تسليم الإنسان إلى الهوى، فالهوى يعمى ويصم، واتباع العواطف قد يضلل الإنسان عن الحق، وخصوصاً العواطف الهوج، مثل الحب الشديد، والبغض الشديد، والغضب الشديد، ولهذا نهى الإسلام عن الحكم بين الناس أثناء الغضب، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي بكرة قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ»؛ لأن الغضب يسد منافذ الإدراك الصحيح لجوانب القضية المختلفة.
ولهذا عاب القرآن على المشركين هذين الأمرين؛ اتباع الظن وهوى الأنفس معاً، فقال في شأن أصنامهم التي اتخذوها آلهة: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى) (النجم: 23)، وقال الله تعالى لداود عليه السلام: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26).
ثالثاً: رفض التقليد الأعمى للآباء والأسلاف:
يرفض العقل المسلم الجمود على ما كان عليه الآباء والأجداد، أو التسليم المطلق لهم فيما اعتقدوه أو فعلوه، بل لا بد من وضعها موضع الاختبار والنظر، فليس من المعقول أن يفكر لنا الأموات ونحن أحياء، وأن يلزمنا الأقدمون بنتائج عصور مضت، بل نحن ملزمون بما تهدي إليه عقولنا وما ينتهي إليه تفكيرنا، فإن من الخلل أن نفكر بعقول غيرنا، وقد خلق الله لنا عقولاً تخصنا.
ولهذا شنّ القرآن حملة عنيفة على الجمود والتقليد في كل صوره، حيث قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) (البقرة: 170)، وقال ابن الجوزي: في التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بِهَا أن يطفئها ويمشي فِي الظلمة(1).
رابعاً: رفض التبعية للسادة والكبراء:
حارب الإسلام التقليد الأعمى الذي يتمثل في تبعية الشعوب والجماهير للسادة والكبراء والجبابرة وأصحاب السلطان والثراء؛ فقد ذم القرآن الكريم هذه التبعية العمياء، وحمّل الشعوب وزرها، مع المتبوعين من أئمة أهل النار، حيث قال تعالى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا {66} وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا {67} رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (الأحزاب).
كما حمّل القرآن الكريم الأتباع تبعة ضلالهم، فقد منحهم الله من المواهب والقدرات ما يمكنهم من اتباع الهدى، فعطلوا ذلك وساروا في ركاب المضلين، فما أغنوا عنهم من الله شيئاً، قال تعالى: (قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ {38} وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ) (الأعراف).
خامساً: التعبد بالنظر العقلي:
تقوم العقلية الإسلامية على النظر والتفكر، فالنظر عندها فريضة، والتفكر لديها عبادة، والمراد بالنظر: النظر العقلي، وهو الذي يستخدم الإنسان فيه فكره في التأمل والاعتبار، فعلى الإنسان أن يبدأ بالنظر في نفسه أولاً، ثم في أقرب الأشياء إليه، ثم ينتقل بنظره إلى ما في السماوات والأرض، ليتخذ من نظره سبيلاً إلى الإيمان واليقين، وقد حث القرآن الكريم على ذلك كله، حيث قال تعالى: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات)، وقال أيضاً: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) (عبس: 24)، وقال سبحانه: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (يونس: 101)، وقال أيضاً: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53).
سادساً: لا تقبل دعوى بغير برهان:
لا يقبل العقل المسلم أي دعوى تدعى بغير برهان علمي يشهد لها، ويدل على صحتها وصدقها، وما لم يوجد دليل يثبت الدعوى أو القضية المطروحة؛ فهي في نظر العقل المسلم مرفوضة ساقطة، قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 111)، وقد جاء قوله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في العديد من الآيات القرآنية رداً على مزاعم المبطلين، ليؤسس بذلك العقلية المسلمة التي لا تقبل أي دعوى بدون برهان.
سابعاً: رعاية سنن الله في الكون والمجتمع:
إن العقلية المسلمة ترتكز على احترام السنن والقوانين التي أقام الله عليها نظام الكون ونظام المجتمع، وهي سنن وقوانين لها صفة العموم والشمول، فهي تحكم على الناس جميعاً، فالكل في ميزانها سواء، كما أن لها صفة الثبات والدوام، فهي لا تتغير ولا تتبدل، وهي تجري على الآخرين كما جرت على الأولين، قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: 137)، وقال أيضاً: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) (فاطر: 43).
إن المسلمين في العصور الأولى رعوا هذه السنن، واحترموا شبكة الأسباب والمسببات، فأقاموا حضارة مُثلَى، نشأت في رحابها علوم كونية ورياضية، وامتدت جذوعها، وبسقت فروعها، وآتت أكلها بإذن ربها(2).
____________________
(1) تلبيس إبليس، ص 74.
(2) العقل والعلم في القرآن الكريم: د. يوسف القرضاوي، ص 250.