أرأيتَ لو أن 100 شخص أتيح لهم بوفيه مفتوح ومجاني تمامًا، يعرض كل ما تشتهي الأنفس وتَلَذُّ الأعين من الحلوى المشرقية والمغربية، فلما همّ الناس بالمبادرة إليه، قيل لهم: إن ثمة تفصيلة صغيرة، مفادها أن في تلك الحلوى نوع سمّ مدسوس بقدر صغير جداً، بحيث لا يؤثر في البَدَن إلا على مدار سنوات.. ماذا تتوقع؟
إذا كنت تظن أن الكل -أو على الأقل الغالبية- امتنع عن الأكل وقاوم إغراء الموجود ومجانيته المادية، فيؤسفني أن أخيّب توقعاتك، إذ إن الجمع بدأ يتجه على دفعات ومراحل للأكل من الحلوى، في البداية على تحرّج وتخوّف وحسبان لقدر ما يأخذون، ثم مع مضي الوقت والانغماس في الملذات التي كانت تتسع، كاد الناس ينسون قصة السم المدسوس أصلاً!
لعلك تظن أن أولئك مجانين لا ريب! وأنك لو كنت مكانهم لما خاطرت بحياتك أو بعض منها لقضمات من الحلوى المجانية! هكذا إذن!
فكيف لو قلت لك: إن تلك الحلوى المسمومة، وتعامل تلك المجموعة معها، ليس إلا صورة مصغرة من تعاملنا اليوم مع أهوائنا وملذاتنا الشخصية، من المرئيات والموسيقى والقصص والنوم والخروجات وحفلات التجمعات ومجالس الغيبة والنميمة والفشر والتنكيت! أترى أن الذي يصرف غالب عمره وزهرة شبابه في مثل ذلك اللهو والعبث وإدمان اتباع الهوى والانغماس في السُّكْر الروحي، هو أحرص من أولئك المجانين على حياته وأعقل منهم في حفظها؟ أليس في مجانية اتباع الهوى دون رقيب أو حسيب من السم ما كان في تلك الحلوى؟!
إننا نستسهل اللذة العاجلة على الآجلة، وننجرف لقبضتها، ونضعف عندما نوازن بين ألم مؤجل وألم معجّل، ولا نتوقف دقيقة لنتفكر أننا سنكابد على كل حال! لكن أن تكابد على مسار متسق مع مقاصد خلقك، وتنسجم مع ما وقر في نفسك من أنك لم تخلق للعبث واللهو المطلق وإهدار العمر فيما لا ترجو ثوابه وتتحمل حسابه، هذه المكابدة خير وأبقى من تلك التي مهما أمتعتك ساعة آلمتك دهرًا، خاصة حين لا ينفع ندم ولا رجعة.
وتأمل الحديث المشهور الذي يُستشهد به في سياق الاقتصار على الأدنى في الدين: جَاءَ أعرابيّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَائِرَ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ: «الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا»، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الصِّيَامِ، فَقَالَ: «شَهْرَ رَمَضَانَ إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ شَيْئًا»، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ الزَّكَاةِ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فقَالَ: وَالَّذِي أَكْرَمَكَ لَا أَتَطَوَّعُ شَيْئا وَلَا أَنْقُصُ مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنْ صَدَقَ» (رواه مسلم).
إذا تفكّرت في قوله عليه السلام: «إنْ صَدَق»، تستشعر دلالة أنّ مَحضَ الحفاظ على تلك الفرائض العامّة البديهية مَطلب عزيز! فمن جهة، لا يمكن لعامل أن يستيقن صدقه وإخلاصه، بل غالبنا يؤدي الفرائض في غفلة عن كثير من معانيها وعلى رأسها الإخلاص!
ومن جهة أخرى، فالقيام بما فَرض الله على الوجه الذي يُحبّه ويرضاه ليس شأنًا هيّنًا يَتحصَّل تلقائيًا بمجرد أداء الفريضة، بل هو رحلة من مكابدة الاستحضار والحضور، ومدافعة الهوى وتكاسل النفس، ومتابعة الهيئات الشرعية والحذر من المخالفات، وغير ذلك مما لا ينتهي على الحقيقة، لمن كان طالبًا مرضاة اللِه ومحبّته، لا مجرد التخلص أو إسقاط التكليف!
وقد لا يبدو أنّ ثمة بأساً في نهج الحياة ذاك حين تنظر للمعادلة من جهة الاقتصار دون زيادة، لكنّ النبي صلى الله عليه وسلم يوجّهنا بقوله: «إن صدق» إلى حقيقة الجُهد المُضاعَف المطلوب عند الاقتصار دون نقصان، أي دون تقصير.
فمن يقول: إنه يكتفي بأداء الصلوات المفروضة دون زيادات النوافل، لا يلتفت غالبًا للجهد الكامن في تحقيق ذلك الاقتصار السهل في نظره، وهو إتيان الفرائض بحقها دون نقصان؛ في وضوئها ووقتها وخشوعها.. من ذا الذي يضمن لنفسه ذلك التمام في اقتصاره؟!
بل إنّ التفكر في الأمر من هذا الوجه ليدفع المؤمن دفعًا للحرص على نصيبٍ من النوافل، لا باعتبارها زوائد يتفضّل بها حين تطيب نفسُه، بل لوازم يَجْبُر بها ما يعلمه من نقص في أدائه للفرائض، ويطمع بفضلها في تثقيل ميزانه يوم الحساب.
ثم إنّ نهج الاقتصار إذا صاحَبَه اتباع الهوى فإنه وإن لم يَجُرّ لنواقض الإيمان لا ريب يُغرِق في نواقصه ويأكل من أطرافه، بما يُغيِّر على المؤمن قلبه وحضوره في العبادات، ويُفوِّت عليه من فرص استزادة وإتقان تجعله من المغبونين يوم التغابن الْغَبْنِ وهُوَ فَوْتُ الْحَظِّ.. فَيَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ غَبْنُ كُلِّ كَافِرٍ بِتَرْكِهِ الْإِيمَانَ، وَغَبْنُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْإِحْسَانِ. (تفسير البغوي).
لذلك بغضّ النظر عن كون اتباع الهوى في أمر مباح أو مكروه أو محرم، فمكمن الإشكال الأوّل تربوي تزكوي، في ألا يقول المرء أبدًا: لا لهذا الجانب من نفسه؛ أي كلما اشتهى يلبّي، حتى يستحوذ عليه هذا النهج من التبعية والانقياد، ويطمر فيه طاقات الإرادة وملك الزمام.
ثم الأدهى بعد ذلك أن تكون هذه المسارعة في التلبية تحت ستار كون الشهوة والهوى في حلال أو مباح، فكم من إغراق في المباحات جرَّ لمكروهات ثم محرمات، لأنّ اعتياد الانقياد دون مساءلة من عقل أو رادع من فكر، سيعمي صاحبه لا محالة عن حدود الفوارق بينها، ذلك أنّ كأس الهوى التي تَتْرعها لا قعر لها فلن ترتوي أبدًا، مهما مَنّيتَ نفسك أنك عمّا قريب تنضج وتكتفي!
هذا ولا تخلو نَفسُ ابن آدم من هوىً ما عاش، والهوى يشمل كلَّ ما للنفس فيه ميل لحظٍّ أو مصلحة أو متعة أو مزاج أو اشتهاء.. إلخ، وليس البأس في ذات الهوى، بل في كونك قائدًا له توجّهه أو منقادًا له يوجّهك؛ وإلا فكم يوافق الهوى الحق حيث أحسن صاحبه تربية نفسه، وقد أغرق قوم في مخالفة النفس، حتى خالفوا الحق في طيّ ذلك، وهذا مثير للباطل، وصاير بصاحبه لعكس القصد(1).
وإنما مكمن الامتحان هو في نهج تربية وتهذيب الأهواء والميول والأمزجة، لتصريف النفس وفق أمر الله تعالى لا وفق أمرها، دون معاندة عمياء أو معاداة خرقاء من جهة، ولا اتباعها والانجرار السَّكران وراءها من الجهة الأخرى؛ لذلك كانت التزكيةُ رحلةَ عمر وجهـادُ النفس رياضةً مستمرة؛ (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت: 6).
_________________
(1) ابن زروق: قواعد التصوف.