كاتبة المدونة: د. صفيّة الزّايد (*)
حدثت مواقف عدّة أثارت تساؤلاً في عقلي وهو: هل من الممكن أن تكون علاقاتنا ميكانيكيّة؟
والحقيقة المؤلمة أنّه من الممكن أن تصبح العلاقات ميكانيكيّة، حتّى بين أقرب النّاس، عندما يفقد التّواصل عمقه ويتحوّل إلى روتين أو واجب، يتبدّل الشّعور بالألفة إلى مجرّد أداء أدوار متكرّرة، كأنّ كلّ طرف يؤدي دوره بلا روح أو مشاعر حقيقيّة.
العلاقات الميكانيكيّة تشبه آلة تُدار بحركة رتيبة؛ يتحدّث الجميع، يضحكون، وربّما يتبادلون التّحايا، لكن دون أن يشعر أحدهم فعلًا بما يختبئ خلف كلمات الآخر، وكأنّ العلاقة قائمة على العادات المتوارثة أو التّوقّعات الاجتماعيّة فقط، دون اهتمام بما يحتاجه القلب أو الروح.
في هذه الحالة، يبدو كلّ شيء سطحيًا، خاليًا من التّفاعل الحقيقي، وهذا النّوع من العلاقات غالبًا ما يُشعرنا بوحدة أكبر؛ لأنّنا نجد أنفسنا جزءًا من مشهد مكرّر، لكنّنا أغراب داخله، كأنّنا نؤدّي دورًا في مشهد تمثيلي حفظناه مسبقاً، بينما صوتنا الدّاخلي يصمت، ولا نجد مساحة لنُظهر حقيقتنا أو نعبّر عن مشاعرنا الصّادقة.
تصبح العلاقات كأنّها قائمة على «ما يجب أن يكون» بدلًا من «ما نريده أن يكون» إذا كنتم تمرّون بهذا الإحساس في بعض علاقاتكم، فقد تحتاجون إلى كسر هذا النّمط، عبر محاولة تغيير طريقة التّواصل مع الأطراف الأخرى، أو حتّى التّحدّث بصراحة عما تشعرون به، علّهم يدركون أنّ هناك حاجة لإعادة بناء شيء أعمق وأصدق.
مؤلم حقّاً أن تكون وسط العائلة، لكنّ كلّ شيء يبدو كأنّه مجرّد واجب أو حركة تكراريّة بلا روح، ممّا يولّد شعوراً قاسياً جدّاً، فالعائلة ملاذنا الآمن، المكان الذي نلجأ إليه حين يثقلنا العالم، لكن عندما تتحوّل العلاقات الأسريّة إلى شيء ميكانيكي، نصبح كمن يعيش وسط جدران، بلا دفء ولا تواصل حقيقي.
فالشّعور بالوحدة والغربة وسط العائلة يكون كذلك الذي يرتدي طاقيّة الإخفاء يجلس بين النّاس لكن لا أحد يراه أو يسمعه وهو حقّاً أمر يفطر القلب.
إنّ الحزن الذي يرافق هذا النّوع من الوحدة ليس ناتجًا عن غياب النّاس، بل عن غياب العاطفة والتّفاعل الصّادق، فمن يعيش هذه الميكانيكيّة في علاقاته كأنّما يقف في غرفة مليئة بأحبّائه، لكنّ كلّ واحد منهم مشغول بعالمه الخاص، وهو يبحث عبثًا عن عين تنظر إليه بصدق، أو صوت يهتم بما يخبّئه خلف ابتسامته.
لكن عليه أن يتذكّر بأنّ مشاعره الحقيقيّة هذه هي ليست مشاعره وحده، وأنّه ليس وحده في معاناته، وربّما يمكنه محاولة التّواصل معهم بطريقة جديدة، التّحدّث بصراحة، حتى لو كان الأمر صعبًا، أن يقول لهم ما يشعر به، أن يعبّر عن حاجته لحبّهم واهتمامهم، وربما، بصدق مشاعره، سيتمكّن من كسر الجليد.
وإذا لم يستجب أحد، عليه أن يعلم أنّ قيمته لا تُقاس بقدرته على إصلاح كلّ شيء بمفرده، فهو ليس مسؤولاً عن بناء العلاقات وحده.. الأهم هو أن يهتمّ بنفسه أوّلاً، بأن يمنح نفسه حبًّا واهتمامًا، وأن يحافظ على قلبه من أن يُستهلك في علاقات تبقى ميكانيكيّة مهما حاول.
هؤلاء الذين يحملون قلوباً نقيّة شفّافة مليئة بالحُبّ والعطاء يستحقّون أن يُمنحوا حبّاً صادقاً، أن يُفهموا، وأن يجدوا من يُقدّر نقاء مشاعرهم.. ربما إن لم يجدوه فيمن حولهم الآن، فسيجدونه مع آخرين يشبهونهم، وإن لم يكن اليوم فربّما سيكون في وقت آخر.. فقط عليهم ألّا يفقدوا إيمانهم بأنّهم يستحقّون ما هو أكثر من مجرّد تكرار يوميّ خالٍ من الشعور.
_______________________
(*) جامعة عبدالله السّالم.