خليط من اللغات أشبه بـ«كوكتيل» على ألسنة الشباب، يجمع بين العامية وبضع كلمات من الإنجليزية والفرنسية، وقليل من العربية، مع غلبة اللهجة التي تتغير بتغير البيئات والثقافات والشعوب، فقد تجد داخل البلد الواحد أكثر من لهجة، ليصبح اللسان العربي مرتعاً لكل من هب ودب.
اللافت أن البعض يرى في استخدام اللهجات المحلية دلالة على قلة التعليم أو تدني المستوى الاجتماعي والثقافي، فيلجأ إلى تعديل لهجته، ومسايرة الوسط الاجتماعي الجديد الذي انضم وتحدث إليه، بلهجة غير تلك التي نشأ وترعرع لسانه عليها.
بل قد تجد قدراً من السخرية والتنمر إزاء لهجة شخص انتقل إلى مكان جديد للإقامة أو العمل مثلاً، فيصبح أضحوكة بين أقرانه؛ لأنه يتحدث بتلقائيته المعهودة، وهنا يقف في مفترق طرق، إما أن يتعامل بأريحية وبساطة مع الموقف، أو ينعزل عنهم، أو يضطر إلى تغيير لهجته، وربما صبغ لسانه ببضع كلمات أجنبية؛ لإشعار الآخرين أنه مثقف و«مودرن» وخريج مدارس اللغات.
تقول دراسة بريطانية صادرة عن جامعة بليموث: إن الثقة بلهجة ما تتغير وفقاً للانطباع الأول عن أصحابها، بينما تفيد دراسة أخرى أن اللهجة قد تحد من الآفاق المهنية لصاحبها، بل إن الباحثة بجامعة وسط فلوريدا تسي وونغ ترى أن البشر عادة ما يصنفون غيرهم اجتماعياً وفق لهجاتهم، مشيرة إلى أن الأمريكيين ينظرون للمتحدثين بلهجة مكسيكية أو يونانية باعتبارهم أقل ذكاء، أو اتقاناً للعمل، مقارنة بالمتحدثين باللهجة الأمريكية المعتادة.
وإلى جانب اللهجة، ونتاج التطور الهائل في وسائل الاتصال والتواصل، وتمدد ثقافة ما يعرف بـ«التيك أواي»، فرضت ما يمكن وصفه بلغة «الروشنة» نفسها على منتديات الشباب وأوساط المراهقين والمراهقات، من جيل الألفية الثالثة.
هذه اللغة، إذا جاز إطلاق لفظة «لغة» عليها، وهي من ذلك ببعيد، تحتوي على مجموعة ألفاظ وكلمات من العامية، مع إدخال تعديلات عليها، مدعومة بتعبيرات الطبقات الدنيا، ومهن الشارع؛ لتصبح خليطاً كثيف المعاني، غريب المذاق، لكنه متداول على ألسنة الناس، بل شائع إلى درجة مقلقة، بعدما سيطرت لغة «الروشنة» على أوساط الفن والثقافة والتعليم والسياسة.
كأب وولي أمر وصانع محتوى، قد أسمع لفظة لا أفهم معناها أو المراد منها، فأضطر إلى طلب المساعدة من ابني لشرح مضمونها، بشكل قد تبدو فيه في حالة اغتراب عن أبنائك، أو انفصال ذهني وفكري عن أجيال دون العاشرة أو العشرين من عمرهم، ابتدعوا لغة فوضوية، نحن في حاجة ماسة إلى دراستها بحثاً عن الجذور والأسباب والنتائج، وكيفية إنقاذ اللسان العربي، ونحن نحتفل بـ«اليوم العالمي للغة العربية» الذي يحل في 18 ديسمبر من كل عام.
على سبيل المثال، في البيئة المصرية، إحدى أكثر البيئات العربية استخداماً للغة «الروشنة»، تجد كلمات مثل «قشطة» للتعبير عن جمال شيء، و«شهيصة» للتدليل على المرح، أما «فكك منه»؛ أي لا تهتم به، و«دوس»؛ أي أكمل وواصل العمل، بينما تدلل «كحرتة» على أيام الفقر والمعاناة، و«عامل دماغ»؛ أي في حالة مزاجية عالية.
هذا القاموس، ناتج عن عوامل عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، التضييق على كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم، وتدني مستوى التعليم، وانتشار المدارس الأجنبية، وإصرار الأعمال الفنية والسينمائية على السخرية من اللغة العربية، واعتبار اللغة الإنجليزية وليست العربية شرطاً للتوظيف، وعدم وجود إلزام قانوني بوضع لافتات المحال التجارية وأسماء السلع والبضائع بأسماء عربية، وغير ذلك من أسباب، دفعت بـ«الروشنة» والكلمات الإنجليزية على ألسنة الصغار والكبار، إلى المقدمة.
منذ الصغر، في سن الثالثة أو الرابعة من عمره، يستيقظ الطفل على مسميات وألفظ أجنبية، روضة الأطفال أصبحت «kg1»، و«kg2»، والمعلم «مستر»، والمعلمة «مس»، والمقعد الدراسي «ديسك»، وصندوق الغذاء «لانش بوكس»، والأدوات المدرسية «السبلايز».. إلخ، وفي الشارع تلاحق الطفل ألفاظ العامة والباعة الجائلين، وفي البيت يحاصره غثاء الفن الهابط وقاذورات «تيك توك»، فهل ننتظر بعد ذلك لساناً عربياً فصيحاً؟!
وعند الانتقال إلى مرحلة دراسية أعلى، وصولاً إلى التعليم الثانوي والجامعي، يظل الحصار مطبقاً بشكل مخيف على أي استخدام للفصحى، بل امتهان من لا يجيد استخدام لغة ثانية، فالفتاة مثلاً يجب أن تقول على الفستان «dress»، وعلى الحذاء «shoes»، وإلا فإن الويل والثبور لها، ستتهم من زميلاتها بأنها فلاحة أو بيئة، وقد ينظر إليها باشمئزاز، وقد يطاح بها من الشلة؛ لأنها من وسط اجتماعي لا يليق بالانضمام إلى جروب متحدثي اللغة الإنجليزية، وهم مرضى بـعقدة الخواجة!
وعلى مستوى العمل الوظيفي، تحضر الاجتماع تلو الآخر، وأذنيك تطاردها كلمات إنجليزية من مديرك أو رئيسك في العمل، الوظيفة «job»، والسيرة الذاتية «c v»، والخطة «plan»، ثم تجد ما لا يمت إلى الثقافة الإنجليزية من قريب أو بعيد، من عدالة الأجور، وبيئة العمل، وفرص الترقية، والتطوير المهني، والهيكل المؤسسي!
الأمر مقلق وخطير، ومن المؤسف القول: إن استبدال لغات ولهجات أخرى وخليط لغوي هابط بالعربية تحول إلى ثقافة وموضة، ودليل تمدن وتحضر واستعلاء على الغير، وعلامة عصرنة وحداثة، بينما نحن في الحقيقة نفقد هويتنا، ونهدر لغتنا، ونُميّع لساننا، وفي أيدينا أعظم لغة، إنها لغة القرآن.